شبهات لغوية حول القرآن [9]. بقلم أ.د/ إبراهيم عوض
المفكر الإسلامي وأستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب- جامعة عين شمس. (تم النشر بإذن من سيادته))
ومن الإيجاز القرآني البليغ نَصْبُ {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} في قوله جل جلاله في الآية 162 من سورة “النساء”: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} ، بهدف تخصيصهم بالذكر على سبيل المدح لبيان أهمية الصلاة في الدين، إذ هي الرباط الذي يصل المؤمن بربه ويجعله دائماً على ذكر منه. وليس المقصود مجرد “المصلّين” بل {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} ، أي الذين يؤدونها على وجهها، وتظهر في قلوبهم وأعمالهم ثمرتها، فهؤلاء هم الجديرون بالمدح لا الذين يأتونالصلاة وهم كسالى مراءاةً للناي أو لمجرد التخلص من عبثها. والمعنى على ذلك هو: “الراسخون في العلم منهم والمؤمنون … ، وخاصةً المقيمين الصلاة، والمؤتون الزكاة … ” أو ما أشبه. وهذا من وظائف الإعراب في الأسلوب العربي الأصيل، إذ بإبدال حركة بحركة أو حرف بحرف يستغنى المتكلم عن لفظةٍ أو جملة بأكملها. ومن ذلك قول خرنق بنت هفّاف:
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين همو … سُمً العُداة وآفة الجُزْرِ
النازلين بكل معتركِ … والطيبون معاقدَ الأُزْرِ
وهذان البيتان أيضاً:
إلى الملك القَرْم وابن الهما … م وليث الكتيبة في المزدَحَمْ
وذا الرأي حين تغم الأمو … ر بذات الصليل وذات اللحم
وكذلك قول ابن الخياط:
وكلً قوم أطاعوا أمر سيدهم … إلى نُمَيْراً أطاعت أمر عاديها
الظاعنين ولما يُظْعِنوا أحداً … والقائلون: لمن داَّر نخلَّيها؟
بيد أن جاهلنا الذي لا يفقه شيئاً في العربية يتطاول على الآية الكريمة قائلاً: “كان يجب أن يُرْفَع المعطوف على المرفوع فيقول:
“والمقيمون الصلاة” (ص 108) . ترى ماذا هو قائل إذا ذكرنا له أن كلمة “الكريم” في قولنا مثلاً: “ذهبتُ مع محمدٍ الكريم” يجوز فيها، إلى جانب الخفض، الرفعُ على تقدير “ذهبت مع محمدٍ، الذي هو الكريم”، وكذلك النصب على تقدير “ذهبت مع محمدٍ، أعني الكريمَ لا غيره”، أو إذا قلنا له إن كلمة “خَرِب” في العبارة المشهورة: “هذا جُحْر ضَبَّ خَرِب” يحوز رفعها نعتاً لـ “حُجْر”، وهو الأصل، كما يجوز خفضها لمجاورتها كلمة “ضَبّ” المجرورة، أو إذا قلنا له إنه يجوز في الجملة التالية: “ولم يكن لهم من رأس مال غير جِدّهم واعتمادهم على أنفسهم” رفع كلمة “غير” ونصبها وجرّها؟ صحيح أننا الآن نميل إلى إجراء إعراب واحد في كثير من هذه الحالات، لكن الأسلوب القديم الأصيل يتمتع بمرونة تفتقدها أساليبنا الحديثة التي تُراعَى فيها القواعد العامة عادة. أياً ما يكن الأمر فلا ينبغي للجهلة أن يستطيلوا بجهلهم على القرآن الكريم.