حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

المسكوت عنه في اللسانيات النصية..بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب

من النصوص التنظيرية- المسكوت عنها-  الدالة على النظرة الكلية (التماسك) في التراث النقدي والبلاغي- بالإضافة إلى ما سبق – ما ذكره ابن أبي الإصبع عن حسن النسق والاتِّساق والانسجام بين أجزاء العمل الأدبي- شعرًا ونثرًا- يقول ابن أبي الإصبع:”وهو أن تأتيَ الكلمات من النثر والأبيات من الشعر متتاليات، متلاحمات تلاحمًا سليمًا مستحسنًا، لا معيبًا مستهجنًا، والمستحسن من ذلك أن يكون كل بيت إذا أفرد قام بنفسه، واستقل معناه بلفظه، وإن ردفه مجاوره صار بمنزلة البيت الواحد، بحيث يعتقد السامع أنهما إذا انفصلا تجزَّأ حسنُهما، ونقص كمالُهما، وتقسَّم معناهما، وهما ليسا كذلك، بل حالهما في كمال الحسن وتمام المعنى مع الانفراد والافتراق كحالهما مع الالتئام والاجتماع” ([1]).

ثم يشفع ذلك بممارسة تطبيقية لحسن النسق الذي لا يقلُّ شأنًا عن (مفهوم التماسك) في الدراسات النصية:” ومن شواهد هذا الباب في الكتاب العزيز قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)([2])، فأنت ترى إتيان هذه الجمل معطوفًا بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة؛ لأنَّه سبحانه بدأ بالأهم، إذ كان المراد إطلاق أهل السفينة من سجنها،ولا يتهيأ ذلك إلا بانحسار الماء عن الأرض، فلذلك بدأ بالأرض، فأمرها بالابتلاع، ثم علم –سبحانه – أن الأرض إذا ابتلعت ما عليها من الماء ولم تقطع مادة الماء تأذى بذلك أهل السفينة عند خروجهم منها، وربما كان ما ينزل من السماء مخالفًا لما تبتلعه الأرض، فلا يحصل الانحسار، فأمر سبحانه السماء بالإقلاع بعد أمره الأرض بالابتلاع، ثم أخبر بغيض الماء عند ما ذهب ما على الأرض، وانقطعت مادة السماء، وذلك يقتضي أن يكون ثالث الجملتين المتقدمتين، ثم قال تعالى: “وقضي الأمر”، أي هلك من قُدّرَ هلاكه، ونجا من قُضيتْ نجاته، وهذا كنه الآية، وحقيقة المعجزة، ولا بدَّ وأن تكون معلومةً لأهل السفينة، ولا يمكن علمهم بها إلَّا بعد خروجهم منها، وخروجهم منها موقوفٌ على ما تقدم، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون هذه الجملة رابعة الجمل، وكذلك استواء السفينة على الجودي، أي استقرارها على المكان الذي استقرت فيه استقرارًا لا حركة معه، لتبقى آثارها آية لمن يأتي بعد أهلها، وذلك يقتضي أن يكون بعد ما ذكرنا، وقوله سبحانه: “وقيل بعدًا للقوم الظالمين”، هذا دعاءٌ أوجبه الاحتراس ممن يظن أن الهلاك ربما شمل من لا يستحق، فدعا سبحانه على الهالكين، ووصفهم بالظلم احتراسًا من هذا الاحتمال، وذلك يقتضي أن تكون بعد كل ما تقدم، والله أعلم.فانظر إلى حسن هذا النسق، وكيف وقع القول فيه وفق الفعل سواء.ومن شواهد هذا الباب الشعرية قول زهير / طويل:

ومن يعص أطراف الزجاج فإنه … يطيع العوالي ركبت كل لهذم

فإنه نسق على هذا البيت اثني عشر بيتًا كل بيت معطوف على ما قبله بالواو عطف تلاحم من غير تضمين([3]).

ونص ابن أبي الإصبع يؤكد النظرة الكلية في التراث البلاغي من زاويتين:

الأولى: أنَّ التماسك والترابط فيها كان على مستوى النص، وليس على مستوى الجملة والجملتين كما يدعي بعض المنتسبين للحداثة، فالنص القرآني تجاوز الخمس جمل، وكذلك الأبيات التي استشهد بها ابن أبي الأصبع تجاوزت أحد عشر بيتًا، وهذا يؤكد أنَّ نظرة علمائنا الكرام البررة  للنص كانت نظرةً كليةً تهدف إلى كشف المحتوى الكلي، وإبراز أوجه التفاعل الداخلي للنص.

الثانية: أن عبارة ابن أبي الإصبع ” كل بيت معطوف على ما قبله بالواو عطف تلاحم من غير تضمين تبرز لنا عنايتهم بالتلاحم والترابط القائِمَينِ على مقصدِ المتكلمِ الحُرّ؛ِ طواعية منه بعيدًا عن التماسك المتكلف الذي يقع فيه الأديب مضطرًّا دون قصد، وكأن البلاغة العربية جعلت من مبدأ التماسك والترابط بين أجزاء العمل الأدبي هدفًا أسمى وغايةً عليا على الأديب أن يسعى إليها في شكلها المتكامل، فلا يجور لحساب اللفظ على المعنى، فيقع فريسةً للناحية الشكلية التي تؤدي إلى “وحدة البيت”، ولا يجور للمعنى على حساب اللفظ فيقع فريسة “للتضمين” الذي يخلُّ بالقافية، وإنما عليه أن يوازن بين الترابط اللفظي والدلالي، ولعلَّ هذا ماقصده ابن أبي الإصبع بقوله: “كل بيت معطوف على ما قبله بالواو عطف تلاحم من غير تضمين”([4]).

وقد أشار إلى ذلك الجاحظ قائلاً: وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغًا واحدًا، وسبك سبكًا واحدًا؛ فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان”.

وهي نظرة سائدة في التراث البلاغي كما صورتها عبارة ابن رشيق:”ومن الناس من يستحسن الشعر مبنيًّا بعضه على بعض…مثل الحكايات وما شاكلها، فإنَّ بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد”([5]).

والسؤال الذي تطرحه الدراسة: هل تعمَّد بعض المنتسبين إلى الحداثة السكوت عن تلك النظرة الكليَّة، وإخفاء وجهة النظر الأخرى في البلاغة العربية حول “التضمين” و “وحدة البيت” والأبيات التي امتدح النقاد والبلاغيون تعلق البيت بما بعده، وهي نصوصٌ صريحة؟ ولماذا صدَّروا لنا فكرة “التضمين” على أنها دعوة إلى وحدة البيت أو انحياز من البلاغة العربية إلى الجملة على حساب النص؟

 فليس من المعقول أن يؤكد البلاغيون – غير مرة-على التلاحم والترابط بين أجزاء الكلام كما هو واضحٌ من النصوص السابقة، ثم يناقضوا ذلك بالتركيز على وحدة البيت عند المعالجة التطبيقية، ولا يعقل- كذلك- أن يفيد كلامهم الدعوة إلى النظرة الكلية في موضع التنظير، ولا يفيده في موضع التطبيق، فهذا ممَّا لا يقول به عاقل، وإنَّما دلالة التماسك والترابط وجودة السبك موجودة في تراثنا البلاغي، وكون المحدثين لم يفطنوا إليها ليس مدعاة لنفيها أو تجاهلها.

ومن هذه النصوص التطبيقية ما أورده المبرد في الكامل.والمبرد في الكامل لا يذكر كل التشبيهات، وإنما يذكر بعض ما استحسنته العرب من التشبيه المصيب,على حدِّ قوله:([6])

والعجيب أنه يحكم بالجودة والإصابة والاستحسان على قول مجنون بني عامر الذي استدل به المحدثون على وحدة البيت وبلاغة الجملة، وهو قوله:

كأن القلب ليلة قيل يغدى … بليلى العامرية أو يراح

قطاة غرها شرك فباتت … تجاذبه وقد علق الجناح

لها فرخان قد غلقا بوكرٍ … فعشهما تصفقه الرياح

فلا بالليل نالت ما ترجي … ولا بالصبح كان لها براح

وقد قال الشعراء قبله فلم يبلغوا هذا المقدار”.([7])

ثم يقارن بينه وبين بيت الشيباني للحجاج:

هلا برزت إلى غزالة في الوغى … بل كان قلبك في جناحي طائر

وينتصر للبيت المُضَمَّن قائلاً: “فهذا يجوز أن يكون في الخفقان وفي الذهاب البتة”([8]).

وهذا القول من المبرد – الذي قال عنه ابن جني: إنه جبل من جبال العلم،- إنما يبطل كل وهم، ويقطع كل هاجس يدور حول الحكم على هذا البيت بأنَّه معيب، ويؤكِّد أنَّ ما كان من حكم أبي هلال العسكري لم يكن إلَّا في إطار الدائرة العروضية التي هي مظهرٌ جماليٌّ يضاف إلى جماليات البيان العربي، وكأنَّ المبردَ بهذا الحكم والنعت بالإصابة يريد منَّا أن نقتدي ببيان العرب وطرائقهم في التعبير، وأن يغرس فينا ذوقًا وطبعًا نتذوق ونطالع به كلام العرب.

يتبع…

أ.د صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد

ووكيل كلية العلوم الإسلامية

https://www.youtube.com/channel/UCSUJyz_yZLfFHnc9wyFoKiQ

https://www.facebook.com/saleh.ahmedabdelwahab.5

الهوامش:

[1]– تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن- المؤلف: عبد العظيم بن الواحد بن ظافر ابن أبي الإصبع العدواني، البغدادي ثم المصري (المتوفى: 654هـ)- تحقيق: الدكتور حفني محمد شرف- الناشر: الجمهورية العربية المتحدة – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – لجنة إحياء التراث الإسلامي- ص 425 – الجزء الثالث.

[2]– سورة هود الآية 45.

[3]– تحرير التحبير – ص 425 – الجزء الثالث.

[4]– تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن- المؤلف: عبد العظيم بن الواحد بن ظافر ابن أبي الإصبع العدواني، البغدادي ثم المصري (المتوفى: 654هـ)- تحقيق: الدكتور حفني محمد شرف- الناشر: الجمهورية العربية المتحدة – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – لجنة إحياء التراث الإسلامي- ص 425 – الجزء الثالث.

[5]ـــ العمدة – الجزء الأول- ص261، 262.

[6]–  الكامل ص 29 الجزء الثالث.

[7]–   الكامل ص 29 الجزء الثالث.

[8]–   الكامل ص 29 الجزء الثالث.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu