حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

نظرية الأفعال الكلامية ودورها في فهم الخطاب القرآني بقلم أ.د/ ياسر رجب عز الدين

أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية اللغة العربية بجرجا- جامعة الأزهر

الأفعال الكلامية من أبرز المفاهيم التداولية حضورًا في التحليل التداولي للخطاب، في العصر الحديث، وهي أقوال تؤدَّي بها أفعال، فبها يمكن للمرء أن ينجز أفعالاً بواسطة اللغة، نحو: أزوِّجكَ ابنتي؛ فبمجرد التلفظ بالقول تصير الابنة زوجة؛ ومن ثم يحدث فعل كلام.

هذا وتعد ” نظرية الأفعال الكلامية ” أهم نظرية في اللسانيات؛ حيث إن دراسة هذه الأفعال وما يفعله المتكلمون باللغة من تأثير وتبليغ وإنجاز أفعال تعدّ من أهم مجالات الدراسات التداولية على الإطلاق، وذلك بوصفها تمثل البنية الصغرى التي يتعين تحليلها والوقوف على طبيعتها قبل الانتقال إلى البنية الكبرى التي تتمثل في مختلف أنواع التبادل في مجتمعٍ من المجتمعات “([1]).

وعندما نحاول فهم الخطاب القرآني وأسراره الكامنة نجد أنَّ القرآن خطاب يحتوي على الإقناع والتأثير، وهو إلى ذلك ميدان تجري فيه الأحداث، وتتحرك فيه الذوات، وتتحاور وتتجادل ويحاجّ بعضها بعضًا، ومن ثم تبرز فيه الخاصيَّة الحجاجية التداولية، وفيه معان خاصة به كالتعجب، والتنديم، والتحسير.

وعندما نريد تطبيق نظرية الأفعال الكلامية على نص أو خطاب معين لابد من تطابقه مع قواعد اللغة وأساليبها البلاغية ومن ذلك النَّص القرآني، الذي يتميز بكونه نصًا مقدسًا، أنزل وفق قواعد اللغة العربية، واستعمال العرب لها، والدارس للأوامر الشرعية وموقف المكلف منها، إنما يدرس في الحقيقة نسق العلاقة بين المولى عزوجل والعبد، التي هي علاقة أمرية؛ أي نمط خاص من القوى المتضمنة في القول، وكل عنصر من القرآن هو سبب في إعجازه([2]).

إضافةً إلى ذلك فالقرآن الكريم باعتباره نصٌّ تأثيريٌّ فإنه لا يفصح عن معانيه الضمنية والتي لا نفهمها إلا من خلال السياق، وهذا بالتحديد ما يتجسَّد في نظرية الأفعال الكلامية([3]).

فالنص القرآني وهو كـلام االله تعـالى المنـزل علـى رسـوله محمـد صـلى االله عليـه وسـلم، يحتـوي على نصوص متنوعة ذات وظائف مختلفـة منهـا مـا يركـز علـى الجانـب الإخبـاري أو التعبـيري ومنـه نصـوص داعيـة ومحفـزة علـى شـيء مـا، ويـدخل في تلـك الوظـائف الوظيفـة الجماليـة… ولكن ليست ثمة وظيفة من تلك الوظائف يمكن أن تظهر بمعـزل عـن الوظـائف الأخـرى([4]).

وعندما نطالع القرآن الكريم ونغوص في أعماق معانيه ونعايش الأفعال الكلامية في الخطاب القرآني نرى أهمية الوقوف على الأفعال الكلامية لفهم النص القرآني، وما وراء ألفاظه من معانٍ وأسرار لا تظهر للعيان، حيث تقوم نظرية الأفعال الكلامية على قسمين:

  1- ( أفعال إخبارية (تقريرية: ويطلق عليها ” أفعال كلامية مباشرة “، وهي أفعال تصف حقائق العالم الخارجي، ويمكن الحكـم عليهـا بالـصدق أو الكذب، نحو: (السماء تمطر) فهي تنقل معلومة إلى المتلقّي أو تُقرر واقعا، وتوصف بالصدق إذا كان المطـر حادثًا، كما تُوصف بالكذب إذا كان المطر غير حادثٍ،  ومن ذلك ماورد في القرآن في قوله تعالى:” إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ(8)؛ حيث ذكر الطاهر بن عاشور: أنَّ هَذَا اسْتِئْنَافُ وَعِيدٍ لِلَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْبَعْثِ وَلَا فَكَّرُوا فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْآيَاتِ نَشَأَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ الْمُنَاسِبِ لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَبَيْنَ الْوَعِيدِ الْمُنَاسِبِ لِلْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تَنْفَعُهُمُ الْأَدِلَّةُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَيَتَّقُونَ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ سَادِرُونَ فِي غُلْوَائِهِمْ حَتَّى يُلَاقُوا الْعَذَابَ”([5]).

٢ -أفعال إنشائية (أدائية): ويطلق عليها ” أفعال كلامية غير مباشرة ” تُؤدَّى بها أفعال في ظروف ملائمة، ولا تُوصف بصدقٍ ولا كذبٍ، وإنّما تكـون ناجحة، أو غير ناجحة، طبقًا لمعيار المواءمة والمخالفة، وكون المتكلّم مؤهلًا للقيام بالفعل، نحـو: (أوصـي بساعتي لأخي) فهذا المنطوق لا يؤدي إلى قول فحسب، وإنّما يؤدي إلى وقوع فعل هو الوصية، ويدخل فيهـا ( التسمية، والاعتذار، والرهان، والنصح، والإرشاد) ([6]). ويشمل هذا النوع الاستفهام، والأمر والنهي، وغيرها من الأمور الإنشائية الطلبية، ومما ورد من الأفعال الكلامية في القرآن: الاستفهام الإنكاري الوارد في قوله تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ” ([7]وفي هذا الاستفهام الإنكاري نلحظ  من خلال مقام الآية أن عدم توبتهم قد زاد في كفرهم.

ومن ذلك أيضًا الفعل الكلامي بالأمر( للتَّحدِّي والتَّعجيز) في قوله تعالى:” قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ”([8]) حيث يقول الشوكاني:” ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ عَجْزُهُمْ وَيَتَبَيَّنَ ضَعْفُهُمْ فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أَيْ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ، فَأْتُوا أَنْتُمْ عَلَى جِهَةِ الِافْتِرَاءِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَجَوْدَةِ الصِّنَاعَةِ، فَأَنْتُمْ مِثْلُهُ فِي مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَفَصَاحَةِ الْأَلْسُنِ، وَبَلَاغَةِ الْكَلَامِ وَادْعُوا بِمُظَاهِرِيكُمْ وَمُعَاوِنِيكُمْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دُعَاءَهُ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَمِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَجْعَلُونَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِادْعُوا، أَيِ: ادْعُوَا مَنِ سِوَى اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُفْتَرًى([9]).

من هذا المنطلق نجد أنَّ العلماء قد تناولوا النص القرآني بالدراسة والتحليل في إطار نظرية الأفعال الكلامية واستطاعوا الكشف عن أسرار ومواطن الإعجاز القرآني ومكنوناته؛ من خلال الكشف عن الأفعال الكلامية وأغراضها اللغوية، فجاءت الرسائل والأبحاث التي تحمل اسم” الأفعال الكلامية في بعض سور القرآن([10]) أو على القرآن بشكلٍ عام، كناحية تطبيقية للنظرية على نص قرآني.

وعلى ذلك يمكن القول: إنَّ نظرية الأفعال الكلامية تعد إضافة للدراسات اللسانية في العصر الحديث؛ حيث تكشف أبعاد الخطاب، والأمور الخفية في السياقات المختلفة سواء في القرآن أو السنة أو الشعر، وأن الطريق مازال طويلاً في سبيل تطوير وكشف أبعاد هذه الظاهرة اللغوية التي أصبحت محط أنظار العلماء والباحثين الجادين، تثري العربية والدراسات القرآنية بأبحاث ورسائل تتناول ظاهرة الأفعال الكلامية نظريًا وتطبيقيًا….       ( هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل)

********

([1]) الأفعال الكلامية في سورة الكهف ـــــ دراسة تداولية / لآمنة لعور ص 8.

([2]) ينظر: الأفعال الكلامية في القرآن الكريم ـــ سورة البقرة ــــ دراسة تداولية/ لمحمد مدور ص ” و”.

([3]) أفعال الكلام في سورة مريم دراسة تداولية/ لحدادي صباح ورفيقتها ص61.

([4]) ينظر: أفعال الكلام في القرآن ودورها في إنتاج المعنى وترجمته إلى اللغة الفرنسية / عبد الرحمان مرواني ص 534.

([5]) يونس، الآيات (7، 8)، والتحرير والتنوير 11/ 98.

([6]) الفعل الكلامي في سورة الكهف ـــــ قراءة تداولية/ لحسين جعفر عبيد  ص 277.

([7]) المائدة ، من الآية (74).

([8]) يونس، الآيات (7، 8)، والتحرير والتنوير 11/ 98

([9]) فتح القدير/ للشوكاني 2/ 507.

([10]) ينظر مثلاً: أفعال الكلام في سورة مريم دراسة تداولية/ لحدادي صباح، و الأفعال الكلامية في سورة الكهف ـــــ دراسة تداولية / لآمنة لعور، والأفعال الكلامية في القرآن الكريم ـــ سورة البقرة ــــ دراسة تداولية/ لمحمد مدور، والفعل الكلامي في سورة الكهف، والأفعال الكلامية في السور المسبحات، الأفعال الكلامية في سورة الأنفال… وغيرها.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu