الاحتفاء بالعربية في القديم والحديث بقلم أ.د/ عبد التواب الأكرت
أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم السابق بكلية اللغة العربية بالقاهرة ومقرر اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة بجامعة الأزهر
هذا وقد عَرَف علماؤنا القدامى أهمية اللغة ووظائفها، فقاموا بجمعها من أفواه أهلها الفصحاء ودونوها في معجماتهم، وفي القرون الأولى لم يكن العرب في حاجة إلى معجمات لجمع اللغة؛ لأنها لغتهم التي نزل بها القرآن الكريم، وجاءت بها السنة النبوية الشريفة، وهي بيان لما ورد في القرآن، فقد ملكوا زمامها، وكانت الفصحى هي لغتهم في كل شئون حياتهم، والصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يجدوا صعوبة في فهم القرآن والسنة، وإذا ما التبس عليهم شيء، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهرانيهم، فيوضح لهم المعنى المراد، وهذا يدل على أن اللغة هي أبرز ملامح هويتهم، وأنها أغلى ممتلكاتهم، فكان العربي يحتفظ بملامح لهجته العربية، ويتقيد بها ولا يحيد عنها، والدليل على ذلك ما قاله أبو حاتم السجستاني: قال ” سألت أم الهيثم (وهي من بني عامر بن صعصعة، من بني منقر، وهم بطن من تميم): ([1]) كيف تقولين: أشد سواد من ماذا ؟ قالت: من حلك الغراب. قلت: أتقولينها من حنك الغراب؟ فقالت: لا أقولها أبدا”.([2])
ونحن اليوم في حاجة إلى مزيد من الاهتمام بلغتنا، وأن نتمسك بهويتنا العربية تجاه المتغيرات الحالية والمستقبلية، ضمانا لبقائها في سياق الزحام الحضاري، لتظل قوية صلبة معبرة عن كياناتها الثقافية والحضارية عبر ماضيها، وهذا يستدعي مزيدا من الاهتمام بها، وأن نبذل الكثير من المحاولات في سبيل تنقيتها من الشوائب والألفاظ الدخيلة التي علقت بها، أو المحاولات التي تحاول إضعافها أمام اللغات الأخرى الغازية لها ثقافيا.
ومعروف أن اللغة الأم للإنسان، تظل أحد أهم العوامل في تشكيل ثقافته، واللغة العربية هي اللغة الأم لأبنائها المتحدثين بها، التي تشكل ثقافتهم، وبها تعرف هويتهم، ولابد لأبناء العربية أن يتقنوها جيدا، فهي لغة القرآن الكريم والسنة النبوية، وفَهَمْ القرآن والسنة فرض واجب على أبنائها، ولا يتم إلا بتعلم العربية، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ١٠٣﴾ النحل آية 103، وغير ذلك كثير من الآيات.
وقد حثَّ النبي rعلى فصاحة اللسان فقال: “أنا أفصح العربي بَيْدَ أني من قريش”([3]) وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: “تعلموا العربية فإنها من دينكم”.([4])
إن الأمة عندما تفقد لغتها الأصلية، وتهيمن عليها لغة أخرى، بعد فترة من الزمن، تختلف لغتها عن اللغة الأولى لها، فإذا فرطت الأمة في جانب من لغتها، كان ذلك إيذانا بذهابها، وهذا التفريط يعد إهمالا لجزء من تاريخ العربية في فترة من فتراتها؛ لأن أصحابها في تلك الفترة فقدوا هويتهم اللغوية، فأصاب لغتهم من المتغيرات في عصرهم ما أصابها.
وللأهمية القصوى للغة فقد جعلت الأمم العناية بلغاتها، والاهتمام بها هي إحدى أهم أولوياتها، التي لا تستطيع أن تستغني عنها، بل جعلت اللغة من أهم دعائم نهضتها، التي تسعى إليها.
” يقول الفيلسوف هيدجر: إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، وهي حدود عالمي الحميم، ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها وبعيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الفسيح.
وفي فرنسا أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية قررا بعدم السماح بعقد المؤتمرات الوطنية العلمية باللغة الإنجليزية على الأرض الفرنسية.
وفي فيتنام دعا القائد الفيتنامي (هوشي منه) أمته قائلا: لا انتصار لنا على العدو إلا بالعودة إلى ثقافتنا القومية، فكانت منطلق نهضتهم العلمية والصناعية الجديدة. وها هو الكيان الصهيوني يقوم على إحياء لغته العبرية، وهي لغة ميتة، منذ ألفي سنة، فاعتمدها في شئون حياته، حتى في المؤتمرات الذرية والنووية.
ولذلك قال الأديب الكبير علي الطنطاوي – رحمه الله – ” اللغة العربية أكمل اللغات، وما عرفها التاريخ إلا كاملة، وهي أوسع اللغات”.([5])
وقد أشاد الكثير من المستشرقين باللغة العربية ومنهم:
المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون حيث قال: “استطاعت العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر، سواء كان ذلك في الاكتشافات العلمية والحسابية، أو وصف المشاهدات أو خيالات النفس وأسرارها، واللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات، فقد تفردت بتفردها في طرق التعبير العلمي والفني والصوفي”.
ومنهم المستشرق الألماني فرنباغ حيث قال: “ليس لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل إن الذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العد، وإن اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية وبين ما ألفوه حجابا لا يتبين إلا بصعوبة”.
ومنهم المستشرق الألماني فيشر حيث قال: “إذا استثنينا الصين فلا يوجد شعب آخرُ يَحِقُّ له الفخارُ بوفرة كتب علوم لغته، وبشعوره المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها بحسب أصول وقواعد غير العرب”.
وشهد المستشرق الفرنسي رينان للغة العربية فقال: “من أغرب المدهشات، أن تنبت تلك اللغة القومية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرُّحَّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، ولم يعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعرف شبيها بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج، وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة”.([6])
إن اللغة العربية هي إحدى اللغات الرسمية المعتمدة في اليونسكو، وهي من أكثر اللغات انتشارا كما ذكرت، كما أنها من أغنى اللغات، وشهد الكثير من غير أبنائها على ذلك، فيجب على أبناء العربية أن يتمسكوا بلغتهم ؛ لأنها هويتهم، وأن يستخدموها في كل سبل حياتهم، ولا يتخلوْا عنها، كما يجب على ممثلي الدول العربية، أن يتخلوْا عن اللغة الإنجليزية في بياناتهم في المحافل الدولية، وفي اللقاءات والمقابلات الرسمية، وأن يتحدثوا بلغتهم العربية؛ لأنها إحدى اللغات الرسمية المعترف بها دوليا، ويعد التمسك بها في اللقاءات الدولية والمحافل الرسمية دليل على الأصالة، والارتباط بالقومية العربية، أما التخلي عنها وتركها لصالح لغة أجنبية أخرى فدليل على الضعف والوهن.
========================
([1]) أنظر: لسان العرب (ن ق ر) ، الاشتقاق. لابن دريد ص 248، 250، المزهر 2/539، معجم قبائل العرب. لعمر رضا كحالة 1/26. أم الهيثم هذه كنية لها، والهيثم هو الصقر، أو القعاب، وهناك خلاف بين المؤرخين أن أم الهيثم من بني منقر بن عبيد بن الحرث بن عمرو بن كعب بن زيد مناة بن تميم، فبنو منقر بطن من تميم، وعلى هذا فتكون تميمية، وهناك أيضا من يقول أن أم الهيثم النميرية، واسمها (غَنِيَّة)، وقال بن دريد أسمها (غيثة) وربما هذا تصحيح، فهي من بني نمير بن عامر بن صعصعة. أنظر المعجم اللغوي لأم الهيثم النميرية جمعا ودراسة. د. ياسر السيد رياض. بحث منشور في مجلة كلية اللغة العربية بأسيوط 2021.
(([2] أنظر: جمهرة اللغة. لابن دريد ص 563، شرح الفصيح للزمخشري ص 658.
[3])) شرح السنة للبغوي4/202 ورواه السيوطي في فيض القدير 3/75 بلفظ أن أعربُكم، أنا من قريش، ولساني لسان بني سعد بن بَكر، ووصفه بالصحيح.
[4])) هويتنا الواقية في زمن العولمة. د. محمد مختار جمعه ص45،44.
([5]) أنظر: شبكة المعلومات الدولية مقال بعنوان: حتى لا يصبح خيارنا هو الاستسلام. أنقذوا اللغة العربية من الضياع. لأحمد نصيب علي حسين.
([6]) انظر كتابنا: العربية فخر اللغات وأسماها دراسة صوتية مقارنة. ص 13-16 وما به من مراجع.