مما استعمله العوام في ضد معناه الفصيح [13] (لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله).. بقلم أ.د/ هاشم عبد الرحيم
أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر
لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله
المعنى الفصيح:
“أصلُ الحَوْلِ: تغيُّرُ الشَّيْء وانفِصالُه عَن غيرِه، وباعتِبار التَّغيُّرِ قِيل: حال الشيءُ يَحُول حُؤولًا واستحال: تهيأ لِأن يَحُول، وباعتبار الانفصال قيل: حال بيني وبينك كذا”([1]) بعبارة أوضح: حَالَ الشيءُ نفسُه يَحُولُ حَوْلًا بِمَعْنَيَيْنِ: يَكُونُ تَغَيُّراً، وَيَكُونُ تَحَوُّلًا. وحَالَ فُلَانٌ عَنِ العَهْد يَحُول حَوْلًا وحُؤولًا، أَي: زَالَ.([2])
ومنه قولهم: حَالتِ القوسُ واسْتَحالَتْ بمعنىً، أي: انقلبتْ عن حالِها التي غُمِزَتْ عليها، وحصل في قابِها([3]) اعوجاجُ. قال أبو ذؤيب:
وحالَتْ كَحَوْلِ القوسِ طُلَّتْ وعُطِّلَتْ | ثلاثاً فأعيا عَجْسُها وظُهارُها([4]) |
يقول: تغيّرتْ هذه المرأةُ، كالقوس التي أصابها الطَلُّ؛ فَنَدِيَتْ ونُزِعَ عنها الوَتَرُ ثلاثَ سنين، فزاغ عَجْسُها واعوجَّ … وحالَ عن العهد حُؤولاً: انقلبَ. وحالَ لونه، أي: تغيَّر، واسودَّ.([5])
“والحائلُ: كل شيء تراه يتحرك من مكانه، ويتحول من موضع إلى موضع ومن حال إلى حال. وقال:
رَمَقْتُ بِعَيْنِي كلَّ شَبْحٍ وحائلٍ | لِأَنْظُرَ قَبْلَ اللَّيْلِ كَيْفَ تحُولُ([6])”([7]) |
“والحَوْلُ: القُوَّةُ”([8]). والحَوْلُ: الحركة.([9])
وتأتلف هذه المعاني جمعاء فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: “يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ. قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ”([10])
والمعنى -إذ ذاك- يكون: “لا تحوُّلَ عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله -تعالى- وإقداره على ذلك”([11]) أو يكون: “لَا حَرَكَةَ وَلَا اسْتِطَاعَةَ وَلَا حِيلَةَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ -تَعَالَى”. ([12])
المعنى العامي:
تقول العامة – عند بغتة النبأ الثائر الداهش-: لا حول الله. وعلى هذا يكون ظاهر المعنى -وليس مرادًا- نفيَ قدرة الله -تعالى- على تحويل العبد من المعصية إلى الطاعة، وأنه لا يستطيع توفيقه إلى الصالحات.
استنتاج وتعليق:
دلت الحوقلة في كلام العرب على أنه لا تحول للعبد عن المعصية إلا بحفظ الله إياه، ولا قدرة له على الطاعات إلا بتوفيق الله.
أما المعنى على عبارة العوام، فظاهره -وإن لم يكن مقصودًا- يفيد نقيض المعنى الفصيح الصحيح المليح. وبالتنظير بين هذين التركيبين يتجلى التضاد، فالأول يثبت والثاني ينفي.
وإنما زجَّ بالعوامِّ إلى تحريف الحوقلة أن اللهجة العامية –ولغة الحياة اليومية- تتسم بالخطف والسرعة وتُؤْثِر الاختزال، لاسيما في العبارات المطولة فاشية الاستعمال، فتراهم يقولون في البسملة: بسم الله، ولا يُتِمُّونها اتكاءً على رسوخ العبارة في الأذهان، وكثرةِ جريانها على اللسان، واشتهارها، حتى أغنى صدرُها عن بقيتها، ويضاهئ هاتين العبارتين قولُ العوام: حسبنا الله، اقتضابًا لـ”حسبنا الله ونعم الوكيل”، وهلم جرّا…
وهاتيك العبارة التي درجت على ألسنة العوام -وبعض المتخصصين- مما يوجب الدينُ -قبل اللغة- تصويبَها؛ ذلك لأن الحوقلة كلمة استسلامٍ وَتَفْوِيضٍ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- وَاعْتِرَافٍ بِالْإِذْعَانِ لَهُ، وأنه لا صانع غيره ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ([13]). وظاهر عبارة العامة يعطيك ضد هذا المعنى؛ وعليه يحرم استعمالُها شرعًا ويمتنع لغة .([14])
========================
([1]) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني ص137 .
([2]) اللسان 11/157 ، 158، بتصرف.
([3]) القابُ: مَا بَيْنَ المَقْبِضِ والسِّيَة. الصحاح 1/207 (ق و ب)، واللسان 1/693 (ق و ب).
([4]) البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي، في: ديوان الهذليين 1/29 .
يقال: عَجْسُ القوس ومَعجِسُها، يريد: مَقبضَ القوس. وحالتْ كحَوْل القوس: يعني هذه الخُلَّة انقلبت عن حالها كحَوْل القوس: كانقلابها عند عَطْفها. وطُلَّت: أصابها الندَى (الطَّلُّ). وعُطّلت ثلاثًا فلم يُرمَ بها. قال الأصمعي: ثلاثة أشهر. ديوان الهذليين 1/29 .
([5]) الصحاح 4/1679 (ح و ل)، بتصرف.
([6]) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في: العين 3/99 (ح ش ب)، وتهذيب اللغة 4/114 (ح ش ب)، ولسان العرب 2/494 (ش ب ح).
الشَّبْحُ والشَّبَحُ: الشَّخْصُ. اللسان: 2/494 (ش ب ح).
([7]) الإبانة في اللغة العربية، لسَلَمة بن مُسْلِم العَوْتبي 2/407، وتاج العروس 28/382 (ح و ل).
([8]) معجم ديوان الأدب 3/296، والصحاح 4/1679 (ح و ل).
([9]) ينظر: العشرات في غريب اللغة، لأبي عمر الزاهد، المعروف بغلام ثعلب، ص45.
([10]) صحيح البخاري 5/133 برقم (4205)، وصحيح مسلم 4/2076 برقم (2704)، واللفظ للبخاري.
([11]) شرح مصابيح السنة، لمحمَّدُ بنُ عزِّ الدِّينِ المشهور بـابن المَلَك 3/122، وينظر: إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِـم، للقاضـي عيـاض 8/200، والمنهـاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لأبي زكريا النووي 17/26، 27 ، ودليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، لابن علان البكري 7/242.
([12]) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 17/26، وينظر: شرح مصابيح السنة، لابن المَلَك 3/122 .
([13]) ينظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لأبي زكريا النووي 17/26 .
([14]) يمتنع لغة؛ لأنه حذف منه خبر لا النافية للجنس، وهو ركن من أركان الجملة، وقد ترتب على حذفه فساد المعنى.