سيِّدُ المناهج (المنهج الوصفي) بقلم أ.د/ عصام فاروق
(المنهج الوصفي)
سأتناول في هذه الورقة بعضًا من ملامح المنهج الوصفي، من حيث مفهومه، وأهدافه، ونشأته، وبعض تطبيقاته، وذلك على النحو التالي:
- مفهومه وأهدافه:
يعد المنهج الوصفي من أهم المناهج المعتمد عليها في المجالات الإنسانية- ومنها المجال اللغوي- بل يحلو لنا أن نطلق عليه وصف (سيد المناهج)؛ لاعتماد المناهج الأخرى عليه، كما سنوضح إن شاء الله.
ويقوم المنهج الوصفي في الدرس اللغوي ” على أساس وصف اللغة أو اللهجة في مستوياتها المختلفة، أي في نواحي أصواتها، ومقاطعها، وأبنيتها، ودلالاتها، وتراكيبها، وألفاظها، أو في بعض هذه النواحي، ولا يتخطى مرحلة الوصف.”([1]) بمعنى أن مستخدم هذا المنهج لا يتدخل في وصف الظاهرة المدروسة بالتعليل والتفسير والتخطئة والتصويب، لأن ذلك يدخل في اختصاص منهج آخر هو المنهج المعياري، كما أنه لا يُعني بتطور الظاهرة ومراحلها المتعددة مما يدخل في حيز منهج آخر هو التاريخي، ولا تتم فيه مقارنة أو مقابلة الظاهرة اللغوية بين لغتين أو لهجتين أو لهجة ولغة مما يُعنى به المنهجان المقارن والتقابلي، على أن الفصل التام بين هذه المناهج نظري بحت.
والوصف هنا لا يقوم على الانطباعات الشخصية التي تختلف اختلافا كبيرا بين شخص وآخر، وإنما هو وصف علمي ” يستند إلى التحليل، ولا يكون وصفا علميا إلا أن يسبقه التحليل (حصر جميع جزئيات الموصوف، وتصنيفها، وترتيب هذه التصنيفات حسب نظامٍ تحدده مشكلة البحث). أما الوصف غير العلمي فلا يشترط فيه التحليل، بل – في بعض الحالات- قد يتطلب منهجه التركيز على بعض جزئيات الموصوف والمبالغة عند وصفه للأغراض الفنية. كما أن الوصف العلمي يتطلب الارتباط بالواقع قدر الإمكان، أما الوصف غير العلمي فيتسم بالجنوح في الخيال بقصد أو بغير قصد.” ([2])
ويمكن توضيحًا لهذا الكلام أن نعطي ثلاثة من الباحثين عنوان موضوع واحد، يدرسون فيه ظاهرة لغوية معينة، كلُّ على حدة، فمن المفترض أن يتفق الثلاثة في نتائج عديدة. نعم، قد يزيد بعضهم أمورا أو ينقص بعضهم عن البعض، لكنّ ذلك يرجع إلى مؤهلات كل باحث، وقدراته، المنهجية التي سيتبعها، ليس لاتباع المنهج نفسه، فالمادة التي سيجمعونها ستتفق غالبا، والتصنيف قد يتفقون في كثير منه، ومن المفترض أن يتفقوا على كثير من النتائج.
- نشأته:
يؤرخ الكثير من العلماء للمنهج الوصفي في الدرس اللغوي بما قدمه دي سوسير (ت 1913م) من آراء بُنِي عليها ما يعرفُ بالمنهج الوصفي، أو علم اللغة الوصفي.
ويعود سبب تأريخ العلماء لهذا المنهج بجهود دي سوسير أنه بعد اكتشاف اللغة السنسكريتية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي- تحديدا حينما أعلن السير وليم جونز آراءه حولها عام 1786م- اتجه البحث في أوروبا طيلة القرن التاسع عشر إلى الدراسة المقارنة وكذلك التاريخية، التي ترى أن فهم اللغة – اللاتينية في هذا الصدد على وجه الخصوص- لا يتم إلا من خلال مقارنتها بغيرها، أو من خلال النظر في تاريخها الممتد، إلى أن جاءت نظرة دي سوسير التي جعلت من دراسة اللغة نفسها طريقا لمعرفة ظواهرها وأسرارها، وذلك الاتجاه لخصه تعريفه لعلم اللغة بأنه دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها. وخصوصًا تعبيره (في ذاتها) وهو يوضح أن الطريقة المثلي لدراسة اللغة على مستوياتها المتعددة لا تتم إلا من خلالها هذه المستويات والنظم اللغوية، لا من غيرها.
ولكثير من علماء العربية المحدثين على هذا التأريخ تحفظٌ؛ لسبق علماء العربية – بوجه خاص- إلى كثيرٍ من أسس هذا المنهج. ومن ذلك على سبيل المثال ما يروى من أن الكسائي، وقد سئل في مجلس يونس عن قولهم: (لأضربن أيُّهم يقوم) لم لا يقال: لأضربن أيَّهم، فقال: أيُّ هكذا خُلقتْ.” ([3]) فقد قدم لنا الكسائي وصفًا لوضع هذه الكلمة اعتمد فيه على ما نطقت به العرب، دون البحث عن تعليل أو تفسير.
ومن هذا القبيل – أيضا – ما قام به ابن فارس في كتابه الصاحبي من وصفه أحكام العربية وفقا للاستعمال ليس غير، بتعبيره المعروف:” ومن سنن العرب كذا وكذا”([4])
وهذا ما دعا بعض الباحثين الغيورين على العربية إلى البحث عن جذور لهذا المنهج في التراث العربي، ومنهم:
- يقول د. عبده الراجحي: “.. إلا أن ذلك كله يلفتنا إلى أن كتب النحو العربي حافلة بمادة صالحة جدا عن العربية، وهذه المادة- وإن تكن في مستوى لغوي وزماني ومكاني معين- تقفنا على طريقة القدماء في تناول الظاهرة اللغوية، وهي طريقة لا تبتعد- في جوهرها- عن كثير مما يقرره الوصفيون.” ([5])
- د. نُوزَاد حسن أحمد، في كتابه الماتع (المنهج الوصفي في كتاب سيبويه) وهو يتحدث عن (الكتاب) فيقول: “.. ثم إنه النبع الصافي لمنهج البحث الوصفي عند العرب إذ وقف صاحبه عند الظواهر اللغوية طويلا يصف حقائقها، ويتأمل أسرارها، ويحلل بنيتها ليصل إلى أحكام تمثل غاية النضج.” ([6]) وسوف أستعين لاحقًا ببعض تطبيقات هذا الكتاب التي توضح جذور هذا المنهج في التراث العربي.
- من تطبيقاته:
- الأطالس اللغوية وهي التي تُعنى برسم الخرائط الجغرافية التي تُظهر توزيع لغة واحدة أو عدة لغات أو كل لغات الكون، فتبين مدى انتشارها وترسم حدود مجالها بألوان مختلفة أو بعلامات مميزة، تكون هذه الخطوط حدا يميز المجموعة اللغوية عن غيرها.
تعد هذه الأطالس مثالا ” من أمثلة تطبيق هذا المنهج الوصفي على اللغات واللهجات، فهي لا تعرض علينا سوى الواقع اللغوي مصنفا، دون تدخل من الباحث بتفسير ظاهرة أو تعليل لاتجاه لغوي، هنا أو هناك.” ([7])
ومن الجدير بالذكر هنا أن الأطالس اللغوية العربية ظهرت على أيدي المستشرقين، وإلى الآن ليس لدينا أطلسا عربيا كاملا، بأيدي أبناء العربية لقلة الإمكانيات حينا وتهاون الباحثين في هذا الجانب حينا آخر.
- وقد ذكر د. محمود فهمي حجازي بعضا من عناوين بعض البحوث التي تدخل ضمن علم اللغة الوصفي، وهي أمثلة لتطبيق هذا المنهج في الدرس اللغوي، قائلا: ” إن كل البحوث التي تتناول مستوى واحدا من مستويات اللغة بالدراسة الشاملة أو الجزئية لأحد جوانبه تعد من موضوعات علم اللغة الوصفي. فدراسة البنية الصوتية للعربية المعاصرة، ودراسة المقاطع في لهجة عمان، تعد من الدراسات الصوتية الوصفية. أما علم الصرف الوصفي فيبحث موضوعات مثل: أبنية الأفعال في لهجة القاهرة، أبنية الأسماء في العربية الفصحى المعاصرة، المشتقات في القرآن الكريم، المصدر في الشعر الجاهلي. وهذه أمثلة لدراسات تتناول بناء الكلمة في مستوى لغوي بعينه من مستويات اللغة. وتدخل قضايا تحليل بناء الجملة أيضا في علم اللغة الوصفي، ومن أمثلة بناء الجملة بالمنهج الوصفي: الجملة العربية في الشعر الجاهلي، الجملة الخبرية في القرآن الكريم، الجملة الطلبية في الأصمعيات.. وفي الجانب المعجمي- أيضا- مجالات كبيرة لتطبيق المنهج الوصفي. وهناك معاجم أعدت لمستوى لغوي بعينه مثل: معجم ألفاظ القرآن الكريم.”([8])
[1])) المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي (182) د. رمضان عبد التواب.
[2])) النحو العربي والدرس الحديث (27)
[3])) الخصائص (2/292)
[4])) ينظر: الصاحبي على سبيل المثال (321، 329، 333، 337) وينظر: البحث اللغوي أصوله ومناهجه (81، 82)
[5])) النحو العربي والدرس الحديث (53)
[6])) المنهج الوصفي في كتاب سيبويه (14).
[7])) المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي (182) د. رمضان عبد التواب.
[8])) مدخل الى علم اللغة (22) حجازي