لمحات من توجيه القراءات السبع في سورة المجادلة
القراءات السبع في سورة المجادلة
هذه لمحات سريعة لتوجيه القراءات السبع الواردة في سورة المجادلة، مع محاولة ربطها بالمستوى اللغوي الذي تنتمي إليه:
- قال تعالى: )الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( [الآيتان: 2، 3]
قرأ عاصم ) يُظَاهِرُونَ ( في الموضعين بضم الياء وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي) يَظَّاهَرُونَ ( بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعدها وفتح الهاء.
وقرأ الباقون ) يَظَّهَّرُونَ ( بفتح الياء وتشديد الظاء من غير ألف بعدها وفتح الهاء. ([1])
التوجيه:
مَن قرأ ) يَظَّاهَرُونَ ( فهو من (تَظَاهَر- يتَظَاهَر)، أدغمت التاء في الظاء لأنها مقاربة لها، ” وحَسُن الإدغام هنا لأنك تنقل الأضعفَ إلى الأقوى؛ لأن الظاء أقوى من التاء بكثير، فلما أدغمت التاء في الظاء وقع التشديد في الظاء.”([2])
ومَن قرأ ) يَظَّهَّرُونَ ( فهي من (تَظَهَّر- يتَظَهَّر) فأدغمت التاء في الظاء، فصار في الكلمة إدغامان في الظاء وفي الهاء.
ومَن قرأ ) يُظَاهِرُونَ ( فهي من (ظَاهَر- يُظَاهِر)، مثل (قَاتَل- يُقاتِل)، ولا تاء هنا توجب التشديد كما في القراءتين الأخريين.
ومن الواضح أن هذا الاختلاف ينتمي إلى (المستوى الصرفي)، وتحديدًا اختلاف (الأبنية الصرفية)، ما بين (الأفعال المزيدة). فـ (يَظَّاهَرُونَ) على وزن (يتفاعلون) من (تَفَاعَل) المزيد بحرفين. و (يَظَّهَّرُونَ) على وزن (يتفعَّلون) من (فعّل) المزيد بحرف عن طريق تضعيف العين، و(يُظَاهِرُونَ) على وزن (يُفَاعِلون) من (فاعَل) المزيد بحرف عن طريق الألف بين فاء الفعل وعينه.
- قال تعالى: ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( [الآية: 8]
قرأ حمزة ) وَيَنْتَجُوْنَ ( على وزن (يَنْتَهُونَ) بياء ممفتوحة ونون ساكنة بعدها تاء مفتوحة دون ألف بعدها وضم الجيم.
وقرأ الباقون ) وَيَتَنَاجَوْنَ ( بتاء مفتوحة بين الياء والنون وألف بعد النون وفتح الجيم.([3])
التوجيه:
من قرأ ) وَيَتَنَاجَوْنَ ( أنه من (تناجَى) على وزن (تَفاعَل)، ومن قرأ ) وَيَنْتَجُوْنَ ( أنه من (الانتجاء) على وزن (افتعال)، يقول أبو منصور الأزهري: ” هما لغتان: تناجى القوم، وانتجوا، إذا ناجى بعضهم بعضا.. والمعنى واحد.” ([4]) أي من النجوى: وهو السر.
ومن الواضح أن هذا الاختلاف ينتمي إلى (المستوى الصرفي)، وتحديدًا اختلاف (الأبنية الصرفية)، ما بين (الأفعال المزيدة).
ومما يقوي قراءة ) وَيَتَنَاجَوْنَ ( سياق الآيات اللاحق، من حيث موافقة حمزة للباقين في قوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ([من الآية: 9]، فثلاثتها من (تَفَاعَل).
- قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( [الآية: 11]
قرأ عاصم ) الْمَجَالِسِ ( بألف بعد الجيم على الجمع.
وقرأ الباقون ) المَجْلِسِ ( بغير ألف على التوحيد. ([5])
التوجيه:
ينتمي هذا الاختلاف إلى (المستوى الصرفي)، من حيث الاختلاف ما بين (الإفراد والجمع).
فمن قرأ ) المَجْلِسِ ( بالإفراد؛ لأن الحديث عن مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ففي أسباب النزول ” كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفَّة، وفي المكان ضِيق وذلك يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناسٌ من أهل بدر وقد سُبقول إلى المجلس. فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينظرون أن يُوسّع لهم فلم يفسحوا لهم، وشق ذلك على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان وأنت يا فلان، فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي – صلى الله عليه وسلم- الكراهية في وجوههم، فقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس؟ فوالله ما عَدَل عَلَى هؤلاء: قوم أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم، أقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. “([6])
ومن قرأ ) الْمَجَالِسِ ( بالجمع؛ ” فهو وإن أريد به مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لكل واحد ممن هو في مجلس رسول الله مجلسًا، فجمَع لكثرة ذلك.” ([7]) أو لأن التفسح في المجالس ليس مخصوصًا بمجلس النبي – صلى الله عليه وسلم- وإنما أي مجلس يُطلب فيه التفسح فليُفَسَّح فيه، حتى صار هذا الجزء من الآية كالمثل يقال في مثل هذا الموقف. يقول القرطبي: ” الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والآجر..” ([8])
- قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( [الآية: 11]
قرأ نافع وعاصم وابن عامر ) انْشُزُوا فَانْشُزُوا (بضم الشين فيهما والابتداء بضم همزة الوصل.
وقرأ الباقون ) انْشِزُوا فَانْشِزُوا (بكسر الشين فيهما والابتداء بكسر همزة الوصل. ([9])
التوجيه:
سبب الاختلاف في )انشُزوا( و)انشِزوا( أنهما لغتان (لهجتان) يقال: نشَر ينشُز وينشِز، ومثله: عَكَفَ يعكُف ويعكِف، والنشور معناه: الارتفاع، وهنا بمعنى: إذا قيل لكم قوموا فقوموا.
وتوافق حركةُ همزة الوصل عند الابتداء بها حركةَ العين، فإن كانت العين مضمومة فتُضم، وإن كانت مكسورة فتُكسر.
يدخل هذا الاختلاف تحت (المستوى الصوتي) وعلى وجه التحديد (الإبدال بين الصوائت).
([1]) ينظر: التيسير في القراءات السبع (169) لأبي عمرو الداني، عني بتصحيحه أوتويرتزل – دار الكتب العلمية- بيروت، ط أولى 1416ه -1996م.
([2]) الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها (2/313).
([3]) ينظر: التيسير في القراءات السبع (169)
([5]) ينظر: التيسير في القراءات السبع (169)
([6]) أسباب نزول القرآن (650) للواحدي، تح: د. ماهر ياسين الفحل، دار الميمان ط أولى، 1426ه- 2005م.
([7]) الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها (2/313).