القراءة اللغوية لألفاظ النصوص الشرعية بين اتساع الدلالة المعجمية وقواعد الاستدلال الأصولي.. بقلم م.م/ سامح أحمد عبد الحميد
مدرس أصول اللغة المساعد بكلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر
– الكلمة في المعجم تتسم بما يمكن أن نسميه الإبهام الدلالي وليس هذا الإبهام ناتجا من غموض دلالتها ولكنه ناتج من تعدد الدلالات المحتملة للكلمة في المعجم، والكلمة في المعجم منزوعة السياق بما يفتح الباب واسعا أمام هذا التعدد أو الاحتمال، ويأتي دور السياق السابق واللاحق وغير اللغوي لتساهم في إضفاء نوع من التحديد واستبعاد بعض الدلالات التي لا تلائم السياق، ولكن رغم وجود السياق المستبعد لبعض الاحتمالات قد يبقى أحيانا نوع من احتمال التعدد؛ لأن كل من المعاني المحتملة قد يبدو في نظر متبنيه مقبولا سياقيا ولغويا .
ومن هنا بدأ الخلط والفهم المغلوط عند كثير ممن وضعوا الألفاظ التي احتواها الخطاب الشرعي في دائرة البحث اللغوي المحض، إن النص بغض النظر عن الموضوع الذي يحمله لا يكون له معنى إلا إذا فهم منه دلالته اللغوية وكانت السياقات الخطابية محددة لمعاني بعض الكلمات التي تندرج تحت المشترك اللفظي أو تلك الكلمات التي اختلف معناها من عصر إلى آخر بسبب تواضع مختلف في عصرها .(1)
– وكثير من التفسيرات التي عبثت بالنص الشرعي انطلقت من دراسة معجمية خالصة لنص تحكمه ضوابط دلالية أخرى، ومن ذلك قراءات نصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور وغيرهم، فقد أخذ شحرور مثلا اللفظة ثم دار يقلب في بطون المعاجم ليجد فيها ما يمكن أن يصرف به اللفظ إلى دلالة أخرى غير التي عليها المفسرون ” فهذا الرجل وضع أسسا خاصة به ليخرج بها عن ضوابط الأصول وكلام أهل اللغة متنكرا لأي فهم سابق للنصوص (2)”
– ومن أجل ثلاشي كل هذه الأخطار كان الأصوليون سابقين إلى وضع أسس الدراسة اللغوية للخطاب الشرعي وفق قواعد وخطوات تجمع بين رحابة الدرس اللغوي وضوابط الفهم الشرعي السليم للغة، تفاجأ بأحدهم يفسر قوله تعالى ﴿ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ ﴾ }النساء 34{ ، فيقول إن الضرب هنا ليس معناه الضرب المعروف؛ لأن ذلك ينافي رحمة النبي (ﷺ)، ثم يفتش في المعاجم لينهال بكوم من المعاني لمادة (ض ر ب) وما تفرع منها خارجا بنتيجة مفادها أن الضرب هنا معناه الإبعاد أو النأي، ونسى هذا أو تناسى أن ” الألفاظ وحدها قد لا تؤدي المعنى المقصود، وإنما بتوقف الفهم على تلك القرائن التي تأخذ مكانها بقوة في توجيه الكلمات والسير بها لأداء أي من المعاني، وباختلاف هذه القرائن تختلف دلالات اللفظ، ومن غير اعتبارها يكون الفهم سقيما موغلا في السطحية أو التناقض(3) “.
ولذلك دفع النص علماء الأصول إلى كسر الطوق المحيط بالنص والملتبس بما اطرد عليه من خصائص فأرغمهم على ترتيب عناصره انطلاقا من فعل الدلالة ومن إفرازات اللغة ذاتها وما تتميز به من سنن، والقصد تخليص النص من أي استعصاء بفرزه الكلام بسبب ما يعتوره من تشابك العلامات اللسانية وفي محاولة للسيطرة على الدلالة ووضعها في نمذجة نَسَقِيّة اهتدى الأصوليون إلى جملة من الآليات تكفل لنا مهمة مفصلة الخطابات وتحليل النصوص (4)
وبالنظر لهذه الآليات يمكن التعريج منها على ما يلي :
1- الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية :
أشار الأصوليون إلى ما يمكن أن يعتور اللفظ من تغير في الاستعمال، فقسموا الحقيقة إلى :
– وضعية : تخص اللفظ عند وضعه أو تتعلق بدلالات اللفظ في اللغة .
– عرفية : وهي” أن تكون اللفظة موضوعة في كلام العرب لجنس ما ثم يغلب عليها عرف الاستعمال في بعض ذلك الجنس(5)”
وعليه نص الأصوليون على أن المعنى يجب حمله على المعنى المتعارف ولا يعدل عن ذلك إلا بقرينة .
ولذا فعندما يقول أحدهم إن “واضربوهن” هنا ليس الضرب المعروف نقول له : قد خالفت الدلالة العرفية لغير قرينة أو لقرينة متوهمة ( تنافي الرحمة) فلنلغ بتنافي الرحمة هذه كل الحدود والتكاليف التي أقرتها الشريعة، إذ الجلد وقتها ينافي الرحمة ، والرجم وحد الحرابة وهلم جرا .
2- وضوح الدلالة وغموضها :
لاحظ الأصوليون أن دلالات الألفاظ والعبارات قد تكون واضحة أو غير واضحة، بل لاحظوا أن هذا الوضوح أو عدمه درجات، فقسم الجمهور وعدمه إلى : النص، والظاهر، والمجمل ، ولكل درجته ومنهج لتفسيره عند الأصوليين(6)
وإذا تداخلت احتمالات الخطاب يتمسك فيها بالظاهر مطلقا عند انعدام القرينة(7).
3- السنة مبينة للقرآن :
مما قد لا يدركه البعض أن السنة ليست مبينة للأحكام في القرآن فقط، بل هي شارحة لما احتمل من مدلول ألفاظه أو ما غمض منه، وتعد أبواب التفسير في كتب السنة من أعمال التفسير اللغوي، الأمر الذي يحمل على النظر إلى أن النبي (ﷺ) أول معجمي لاضطلاعه ببيان غريب الذكر الحكيم لصحابته الكرام مما جمع ودون في كتب السنة النبوية الشريفة .(8)
ولذلك إذا ما قال أحدهم أن (واضربوهن) ليس معناها الضرب المعروف نقول له ما تقول في قوله (ﷺ) “واضربوهن ضربا غير مبرح”(9) هل يمكن للفظ أن يحمل على غير الضرب المعهود بدليل تأكيده بالمفعول المطلق وبالوصف (غيرمبرح) !
إن دراسة اللفظ في الخطاب الشرعي تقتضي جمع كل الأدلة التي ورد فيها اللفظ لإجراء مسح معجمي للفظ باستيفاء جميع أوجه الدلالة المحتملة ثم الانتقاء منها ما يتناسب مع موارد اللفظ في الأدلة مجتمعة ؛ لأن هذه الأدلة ما هي إلا سياقات حاسمة ومحددة لدلالة اللفظ ومقيدة له .
ومن هنا تظهر أهمية إلمام الباحث اللغوي بقواعد الدلالة وتفسير المعنى عند الأصوليين، ” لقد استطاع هذا التوجه أن يقدم تصورا قيما عن أسلوب التعامل مع النص وطرق استقاء الدلالة منه فوجه عنايته إلى وضع الطريقة العلمية التي يتمكن بسببها من بناء نواة المعنى في النص ليحتفظ بوحدته وثباته ومقاومته لألوان التأويل الفاسد والباطل “(10)
إن ترك النصوص الشرعية للقراءات اللغوية المفتوحة يترتب عليه أخطار، أهمها: هدر ميزة الثبات الدلالي لألفاظ النصوص الشرعية بما يترتب عليه هدر ثبات الأحكام الدالة عليها هذه النصوص؛ ولذا فالواجب على أي باحث عند تعرضه لدراسة نص شرعي إجراء نوع من الدراسة ذات الجناحين، جناح لغوي : يستقرئ كل احتمالات دلالة الألفاظ، وجناح أصولي :يحدد الدلالة وفق منهجية الأصوليين في دراسة المعنى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القراءة المفتوحة للنص الديني، رسالة ماجستير في جامعة القدس المفتوحة، للباحث/مصطفى نايف مصطفى، ص8 .
(2) بؤس التلفيق – نقد الأسس التي قام عليها طرح محمد شحرور، يوسف سعربن ، ص38-ط: مركز دلائل – الثانية –1439هـ – الرياض .
(3) تأويل النصوص في الفقه الإسلامي: دراسة في منهج التأويل الأصولي، الزوادي بن بخوس، ص5، ط: دار ابن حزم – السعودية – الأولى :1430هـ .
(4) التطور الأصولي للمعنى ، د/مختار درقاوي، ص4، ط: دار الكتل العلمية. (بتصرف )
(5) الإشارة في معرفة الأصول، أبو الوليد الباجي، ص223، ط: المكتبة المكية السعودية ودار البشائر- لبنان- الأولى 1416هـ=1996م .
(6) القواعد الأصولية اللغوية، محمد محمود المحمد ، ص11، ط: دار الكتب العلمية- الأولى – 2018م .
(7) ينظر: التطور الأصولي للمعنى، ص71 .
(8) ينظر : مقاصد علم اللغة في الحضارة العربية الاسلامية، خالد فهمي، ص33، ط: دار المقاصد- الأولى – 1436هـ = 2015م .
(9) رواه مسلم، برقم :2118 ، وأحمد برقم :20695 ، وغيرهما .
(10) المرتكزات البيانية في فهم النصوص الشرعية ، نجم الدين قادر كريم، ص25 ، ط: وزارة الأوقاف الكويتية – الأولى – 1431هـ = 2010 م .