حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

المصوتات ومناسبتها للدلالة الإفرادية في شرح المثلثات اللغوية (5) [الجوار].. بقلم أ.د/ منى عبد الظاهر الشامي

أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية البنات الإسلامية بأسيوط جامعة الأزهر

*يقول الفيروزآبادي في الأزهرية: «الجَواري ــ بالفتح ــ جمع جارية, وهي السفن»([1])، وزيد في نسخة المدينة:«الجَوَار: الماء الكثير ما يدرك له قعر»([2]). وقيل: تعني النساء([3])، وقال المقلاتي: «الجَوار: الجارية هي الفتية من النساء وسميت بذلك؛ لخفتها وكثرة جريها، جمع جوار»([4]).

جاء أن «الجَوْرَ: تَرْكُ القَصْدِ في السَّيْر»([5])، فترك القصد في السير إما يقصد به البطء في السير أو الإسراع فيه والمراد هنا السرعة كما ذكر الشارح, فالمادة فيها سرعة وانتشار وخفة ولا أخف من حركة الماء, ولما كانت الجارية تمتاز بكثرة جريها وسرعة حركتها, وانتشارها في الأماكن لقضاء أشغال مواليها, تناسبت مع خفة مصوت الفتح وانتشاره, واتساعه وجري الهواء معه دون عائق.

ومن هنا جاءت دلالة الجواري ـ بالفتح ـ على السفن لخفتها أثناء تحركها في الماء وسرعة انتقالها من مكان لآخر فهي منتشرة ممتدة في الأماكن، ولقد جاء في شرح الخميسي لمثلث قطرب أن «الجَارية: السفينة, سميت بذلك لجريها في البحر, ومنه قيل للأمة: جارية على التشبيه؛ لجريها مستسخرة في أشغال مواليها, والأصل فيها: الشابة؛ لخفتها، ثم توسعوا حتى سموا كل أمة: جارية، وإن كانت عجوزًا لا تقدر على السعي تسميت بما كانت عليه»([6])، فناسب بذلك معنى الجارية ـ بالفتح ـ خفة مصوت الفتح وانتشاره وامتداده.

*يقول الفيروزآبادي في الأزهرية: «والجِوَار ـ بالكسر ـ: من المجاورة»([7])، وقيل: «الجِوار: الأمان والعهد»([8])، وقال الخليل: « والجارُ: مُجاورُكَ في المَسْكَن، والذي استجارك في الذِّمّة تُجيرُهُ وتمنعه, والجِوار مصدر من المجاورة»([9]). وعند إنتاج الكسرة تكتنف الأضراس جانبي اللسان وتحيط بهما, تمامًا كما يحيط الجار جاره بأمنه وحفظه وكف الأذى عنه.

من جهة أخرى تجد أن حصر الهواء وحبسه وكفه عن الجريان بقوة أثناء النطق بالكسر يشير إلى وجوب حبس الجار أذاه عن جاره وكفه عنه, كل ذلك من دواعي الأمن التي نوه بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما جاء عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»([10]), ومن هنا حدث التناسب بين خصائص مصوت الكسر وهذا المعنى.

*يقول الفيروزآبادي في الأزهرية: والجُوار ـ بالضم ـ: علو الصوت([11])، وهو: الصوت الشديد العالي([12])، وخصه المقلاتي بصوت المكروب، حيث قال: «الجوار بضم الجيم: هو الصوت المرتفع من المكروب أو المريض»([13]).

انفتاح الشفتين أو انغلاقهما أثناء التألم له دور كبير في الدلالة على العلة والألم؛ لذلك قال أحد الباحثين: إن السبب في تسميتها حروف علة أنها تشبه تأوه المريض من الألم والعلة([14])، وكان مصوت الضمة أنسب في الدلالة على الكرب والمرض لما يمتاز به من ضيق وثقل في النطق فحدث تلاؤم بين الصعوبة النفسية والجسدية للكرب والمرض والصعوبة النطقية له, ثمة أمر آخر يكشف عن مناسبة أخرى بين الضم وعلو الصوت, وذلك أنه قد ثبت سلفًا أن الضمة أعلى المصوتات في الناحية السمعية وأنها تُدرك من مسافة أبعد مما تدرك فيها الفتحة والكسرة؛ ومن هنا ناسبت الضمة استعمال الجوار في الصوت العالي, فارتفاع المصوت وافق ارتفاع صوت الجائر. هذا من جهة العلو, أما من جهة الشدة فوجه الملاءمة بينهما بيّن, فالضمة أشد المصوتات وأثقلها كما أن الصوت العالي للمستغيث لا تفارقه الشدة حتى يُغاث أو يبرأ.

=================

([1]) أربع رسائل في شرح مثلث قطرب, ص18.

([2]) كتاب الغرر المثلثة والدرر المبثثة, ص395.

([3]) ينظر: أربع رسائل في شرح مثلث قطرب, ص85, 154.

([4]) المثلثات للمقلاتي, ص43.

([5]) كتاب العين (ج و ر)

([6]) شرح مثلث قطرب ص34.

([7]) ينظر: أربع رسائل في شرح مثلث قطرب, ص18, 85, 153.

([8]) المثلثات للمقلاتي, ص43.

([9]) كتاب العين (ج و ر)

([10]) الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري, باب / إثم من لا يأمن جاره, حديث رقم (6016) (8/10).

([11]) ينظر: أربع رسائل في شرح مثلث قطرب, ص18, 153.

([12]) ينظر: السابق ص86.

([13]) المثلثات للمقلاتي, ص44.

([14]) فن الأداء القرآني في ضوء علم اللغة الحديث, د. محمد متولي منصور, ص 88, الاتحاد التعاوني للطباعة, ط1, 1435هـ ــ 2014م.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu