حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

مقدمة بحث مصطلحات سيبويه بقلم أ.د/ عصام فاروق

مقدمة بحث مصطلحات سيبويه

شهد القدماء والمحدثون من علماء الأمة لشخصية الإمام سيبويه العلمية ولكتابه بالفضل والريادة ما لم يُشهد بمثله لأحدٍ، حتى تخطت شهرتُه أستاذَه والمصدرَ الأول لعلمه الخليل بن أحمد.

وتعدتْ تلك الشهادةُ حدودَ الاختلافات الواضحة والمتجذرة بين مدرستي البصرة والكوفة، لنجد من الكوفيين من يُعلي قدرَ (الكتاب) ويقدره حق قدره، إنْ سرًّا أو جهرًا، ويعترف فيه بأستاذيَّة هذا الرجلِ، وقيمة ذلك الكتاب.

بل تعدتْ تلك الشهادةُ حدودُنا الجغرافية – وما يصاحبها من حدود ثقافيةٍ وعلميةٍ وحضارية- حيث شهد له ولكتابه ثلةٌ من المستشرقين، وأعطوه من العناية والدرس والفحص ما يؤكد القيمةَ العلمية لهذا الكتاب التي لا تقف عند حدود لغة أو حضارة بعينها.

ومما لاشك فيه أن (الكتاب) ليس مصنفًا نحويًّا فحسب، وإنما هو موسوعةٌ لغويةٌ، بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، يؤكد ذلك ما تشمله صفحاته من علوم ومجالات. ومن ضمن هذا المجالات التي تتناثر مادتُها بين جنبات الكتاب، (علمُ الأصوات)، وقد كان لسيبويه فيها شخصيةٌ بدتْ مستقلةً عن شخصيةِ أستاذه واختياراته استقلالًا واضحًا، من حيث تحديد المخارج وصفات الأصوات واختيار المصطلحات أو صياغتها.

ويأتي هذا البحثُ ليتناول جانبًا مهمًّا من جوانب مركزيَّة الإمام سيبويه في الثقافة العربيَّة، يتمثَّل في مصطلحاته الصوتيَّة التي أوردها في ثنايا كتابه، وما لها من أثر في مؤلفات اللاحقين له، تلك المؤلفات التي تتنوع بتنوع مجالاتها المعرفية، وحدودها الزمانيَّةِ بين القديم والحديث، والمكانيَّةِ في بقاع الأرض المتراميةِ الدارسةِ للغة الضاد، أو المعنية بتراثها، ومشاربِ أصحابها وانتماءاتهم إلى مدارس لغوية ونحوية متعددة.

وعلى الرغم من هذه الاختلافات كلِّها يبقى المصطلحُ الصوتيُّ السيبويهيُّ قاسمًا مشتركًا ينسربُ داخل تلك المؤلَّفات- إنْ على جانب استعمال المصطلح أو اعتماد تعريفاته وإقرارها- شاهدًا على مركزيَّة هذه المصطلحات داخل الجهاز الاصطلاحي لعلم الأصوات في اللغة العربية، وهو ما يدعو إلى العجب والاستنفار في الآن نفسه لدراسة مظاهر تلك الهيمنة، وأسبابها، وآثارها في الدرس الصوتي العربي قديمه وحديثه.

وأصلُ هذا البحث ورقةُ عملٍ بعنوان: ( مركزية مصطلحات سيبويه الصوتية في الثقافة العربية ) كنتُ قد تقدمتُ بها إلى الندوة العلمية الدولية المعنونة بـ( مركزية سيبويه في الثقافة العربية ) التي نظمَّها قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية- جامعة عبد المالك السعدي- بتطوان، بالمملكة المغربية يومي 14، 15 من ديسمبر عام 2016م، ثم وجدتُ جوانبَ عديدةً من هذه الورقة في حاجة إلى شرحٍ وتفصيلٍ وبيانٍ، لم تكن تتحمله ورقةُ العمل المُقدَّمة؛ لطبيعتها ومحدودية المساحة المتاحة لها، فوسعتُها بما يزيد على ضعفيها، من حيث المساحة، وما اقتضاه ذلك من التوسع في النماذج ومحاولة التعمق في المعالجة.

ولمنزلة سيبويه وشهرته في التراث العربي فقد تناول الكثيرون مصطلحاته النحوية بالدرس والتحليل، وكذا آراؤه الصوتية، لكني لم أقف- في حدود اطلاعي- مَن خصَّص بحثًا لدراسة مصطلحاتِه الصوتيَّةِ، من حيثُ بيانُ مركزيتها، وتوضيح أسباب تأثيرها واستمراريتها، أو إخضاعها لمبادئ (علم المصطلح الحديث) كما سعيتُ في هذا البحث.

وقد رام البحثُ المنهجَ الوصفيّ لينهض بالإجابة عن تساؤلاته، من خلال آليات الوصف والتحليل، كما خَلَدَ إلى الاستعانة ببعض مبادئ المنهج التاريخي، حينما تعلَّق الأمر بتأصيل بعض المصطلحات، وكذا الحديث عن سيبويه، وكتابه، ومكانتهما في القديم والحديث.

وقد أتتْ التساؤلات الرئيسة لهذا البحث متمثلة في:

  • ما مظاهر مركزية مصطلحات سيبويه الصوتية في التراث العربي؟
  • ما آثار تلك المركزية على الخالفين لسيبويه؟
  • ما أسباب تلك المركزية، وما العوامل التي أدتْ إلى بقاء هذه المصطلحات قرونًا عديدةً؟
  • هل توافرت في هذه المصطلحات الشروط الفنية للمصطلح العلمي الدقيق، كما هو مقرر في علم المصطلح الحديث؟

وسعى البحثُ إلى الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال تقسيمه إلى المطالب الأربعة التالية:

المطلب الأول: الإمام سيبويه و(الكتاب) ومنزلتُهما في العربية

أردتُ من خلال هذا المطلبِ أن أوضح ما لسيبويه وكتابه من منزلةٍ كبيرةٍ في نفوس علماء الأمة في القديم والحديث، من خلال بعض الروايات والأخبار الواردة في ذلك، من حيث كونها دليلًا قويًّا على ما تملكه هذه الشخصية من ريادةٍ تاريخيةٍ وتميزٍ في ثقافتنا العربية.

المطلب الثاني: المصطلحات الصوتية في التراث العربي

تناولتُ في هذا المطلب إطلالةً كلية للمصطلحات الصوتية في تراثنا العربي، حاولتُ فيها التأريخَ السريعَ لبعض المراحل التي مرتْ بها من خلال تلك الإشارات الواردة عند بعض العلماء ما قبل الخليل، ومرورًا بالمقدمة الصوتيَّة الخليليَّة، والإسهامات السيبويهيَّة بوجه عامّ، وما لجهديهما في هذا المجال من مكانةٍ ومنزلةٍ.

كما فحصتُ بعضَ سمات المصطلح الصوتي القديم، ووضحتُ كيفية استثمار المحدثين؛ عربًا ومستشرقين لهذه المصطلحات، بعد إعادة تعريفها بحسب ما يتلاءم مع نظرياتهم الحديثة، وذلك بشهادة المنصفين منهم.

المطلب الثالث: مركزية مصطلحات سيبويه الصوتية: (مظاهرها، وآثارها)

توقفتُ في صدر هذا المطلب أمامَ إشكالية منهجية تتمثل في عد الجزم بنسبة المصطلحات الصوتية الواردة في (الكتاب) إلى سيبويه، موضحًا سبيلي إلى تخطي هذه الإشكالية.

واعتمدتُ في هذا المطلب على استجلاء نماذج من المصطلحات – موزعة على حقولٍ متعددةٍ منها: مصطلحات صفات الأصوات، مصطلحات أعضاء النطق والمخارج، المصطلحات الخاصة بالأصوات الفروع، المصطلحات الفنولوجية، المصطلحات الخاصة بأداء الحركات – من خلال ودجودها وتكرارها في كثير من مصنَّفات التراث العربي، معقبًا على ذلك ببيان مظاهر مركزية هذه المصطلحات، وآثارها في مؤلَّفات الخالفين لسيبويه.

 

المطلب الرابع: مركزية مصطلحات سيبويه الصوتية: (أسبابها، وعوامل بقائها)

بعد الحديث عن مظاهر مركزية مصطلحات سيبويه الصوتية عرجتُ على الحديث عن أسبابها وعوامل بقائها، من خلال بعض الأسباب التي أراها حاكمةً في هذا الشأن.

وحاولتُ فحصَ بعض المصطلحات في ضوء المبادئ المصطلحية المقررة في (علم المصطلح الحديث)، كما طبقتُ عليها الشروطَ الفنية للمصطلح العلمي الدقيق، خصوصًا الواردةَ في بابِ الإدغام، للخروج بإجابة عن تلك الأسباب وهاتيك العوامل.

كما ذيلتُ البحث بخاتمةٍ تضمنتْ أهم النتائج التي توصلتُ إليها.

وأرجو من الله أن أكون قد وفقتُ من خلال هذا البحث إلى إعطاء الإمام سيبويه وكتابه بعض ما يستحقان من الدرس والفحص، مع يقيني أن (الكتاب) بحرٌ خضمٌ، لا يستطيع أمثالي أن يخوضوا عبابه بسلام، أو يصلوا إلى لآلئه بسهولة ويسر، وحسبي أني استفرغت جهدي وتشبهت في تلك المحاولة بالرجال ممن أولوا سيبويه وكتابته عنايتهم – من أمثال الأستاذ عبد السلام هارون، والأستاذ علي النجدي-، والتشبه بالرجال على كلِّ حالٍ فلاحُ.

والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل،،

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu