تعدد الجمع للمفرد الواحد في القرآن الكريم [الحلقة الثانية] بقلم د. حاتم أبو سعيدة
مدرس أصول اللغة بكلية اللغة العربية بالمنوفية جامعة الأزهر
النبيون-الأنبياء
ورد لفظ النبي مجموعا على صيغتين في القرآن الكريم، بصيغة جمع المذكر السالم في ست عشرة موضعا([1])، وبصيغة جمع التكسير في ثمانية مواضع([2]).
الدلالة المعجمية:
لفظ النبي اختلف في اشتقاقه، هل من (نبو)، أو من (نبأ)؟، فعلى القول بأنه من (نبو)فإن الدلالة المحورية تدور حول معنى الرفعة؛ وذلك لرفعة مقام النبي، يقول ابن فارس (ت: 395 هـ): “النُّونُ وَالْبَاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعٍ فِي الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ تَنَحٍّ عَنْهُ… وَيُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اسْمُهُ مِنَ النَّبْوَةِ، وَهُوَ الِارْتِفَاعُ، كَأَنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ بِرَفْعِ مَنْزِلَتِهِ”([3]) .
ويقول الدكتور جبل: ” لفظة “النَبِيّ “قيل أُخِذَتْ من العُلُوّ؛ لشرفه، وهذا كما قال تعالى: ﱩ قد جعل ربك تحتك سريا ﱨ [مريم: 24] فالنبي أرفع خلق الله. وقد جاء من استعمالات العرب لفظ “النَبِيّ “: العَلَم من أعْلام الأرض (مرتفع) “التي يُهتَدَى بها “-ومراعاة هذا القيد تجمع إلى النبي الشرف مع الهداية”([4]) .
“وقال الكسائي: النبي بغير همز، معناه في اللغة: الطريق، والأنبياء طرق الهدى، وعلى هذا سمّي الرسول نبيًّا لاهتداء الخلق به. واختار ابن الأنباري هذا القول، وقال: سمي النبيّ نبيًّا لبيان أمره ووضح خبره، أخذ من النبي وهو عندهم الطريق”([5]) .
وعلى القول بأنه مشتق من (نبأ) فإن الدلالة المحورية تدور حول الإخبار؛ لأن النبي مخبر عن الله-سبحانه وتعالى-، يقول ابن فارس (ت: 395هـ): “النُّونُ وَالْبَاءُ وَالْهَمْزَةُ قِيَاسُهُ الْإِتْيَانُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. يُقَالُ لِلَّذِي يَنْبَأُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ نَابِئٌ…. وَمِنْ هَذَا الْقِيَاسِ النَّبَأُ: الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَالْمُنْبِئُ: الْمُخْبِرُ. وَأَنْبَأْتُهُ وَنَبَّأْتُهُ. وَرَمَى الرَّامِي فَأَنْبَأَ، إِذَا لَمْ يَشْرِمْ، كَأَنَّ سَهْمَهَ عَدَلَ عَنِ الْخَدْشِ وَسَقَطَ مَكَانًا آخَرَ”([6]).
فالدلالة المحورية للكلمة تختلف باختلاف الأصل اللغوي الذي اشتق منه.
الدلالة الصرفية:
جمع السلامة هو ما دل على اثنين فأكثر بزيادة واو ونون، أو ياء ونون، وجمع التكسير هو ما دلَّ على أكثر من اثنين بتغيير صورة مفرده، تغييرًا مقدرًا كفُلْك، أو تغييرًا ظاهرًا، إما بالشكل فقط، كأُسْد بضم فسكون، جمع أَسَد بفتحتين. وإما بالزيادة فقط، كصِنوان في جمع صِنْو بكسر فسكون فيهما. وإما بالنقص فقط، كتُخَم في جمع تُخَمة بضم ففتح فيهما، وإما بالشكل والزيادة كرِجال بالكسر، في جمع رَجل بفتح فضم، وإما بالشكل والنقص ككُتُب بضمتين، في جمع كتاب بالكسر، وإما بالثلاثة، كغِلمان بكسر فسكون، في جمع غُلام بالضم”([7]) .
لفظ نبي يجمع جمع سلامة بزيادة واو ونون في حالة الرفع، وبزيادة ياء ونون في حالتي النصب والجر، ويجمع أيضا جمع تكسير على زنة أفعلاء، ويجمع (نبيء) سلامة، “ويجمع نبئ أَنْبِيَاءَ، وَقَدْ جَاءَ فِي جَمْعِ نَبِيٍّ نُبَآءُ، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ |
بِالْحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا([8]) . |
وجمع الكسرة أدل على الكثرة من الجمع السالم، إذا كانا نكرتان، فإن كانا معرفتان تساويا في الدلالة، وهذا ليس مقتصرا على جمع السلامة وجمع التكثير فحسب، بل يشمل ذلك جمع القلة وجمع الكثرة؛ ولذلك قد يستغنى بأحدهما عن الآخر: ” وإنَّما تعتبر القلة في نكران الجمع، أما معارفها بأل أو الإضافة فصالحة للقلة والكثرة، باعتبار الجنس أو الاستغراق، وقد ينوب أحدهما عن الآخر وضعًا: بأن تضع العرب أحد البنَاءين صالحًا للقلة والكثرة، ويَسْتَغنونَ به عن وضع الآخر”([9]) ، وقال أبو حيان (ت: 745هـ): ” ولا فرق في الدلالة بين النبيين والأنبياء، لأن الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين؛ لأن جمع السلامة إذ ذاك ظاهر في القلة، وجمع التكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة”([10]) .
الدلالة السياقية:
استعمال القرآن الكريم لجمع السلامة للفظ النبي في مواضع، وجمع التكسير في مواضع أخرى قد يجاب عنه بأن هذا الاستعمال لمراعاة القلة والكثرة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو أنه في آيتين تناولتا موقفا واحد اختلف فيه الاستعمال، في موضعين بجمع السلامة، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُون} [سورة البقرة:61]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم} [سورة آل عمران:21]، وفي موضع بجمع التكسير قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون} [سورة آل عمران:112]، والجواب عن ذلك يكمن في دور السياق، والسياق هنا راجع إلى مراعاة صيغ الجمع الواردة في الآية حتى تنتظم الآية في عقد واحد، يقول ابن عادل الحنبلي(ت: 775هـ): ” فإن قيل: ما الفائدة في جمعه «الأنبياء» هنا جمع سَلاَمة، وفي «آل عمران» جمع تكسير؟.
فالجواب: ذلك لموافقة ما بعده من جمعي السَّلامة، وهو {النَّبِيّينَ} {الصَّابِئِين} بخلاف الأنبياء”([11]) .
ومن هناك للسياق دور في استعمال الجمع، فمراعاة جمع السلامة اللاحق في البقرة، والسابق في الموضع الأول في آل عمران كان سببا في إثاره دون جمع التكسير، ومراعاة الكثرة المستفادة من جمع التكسير كان سببا في إيثار جمع التكسير في الموضع الثاني من آل عمران بالإضافة إلى أن الآية التي تسبقها وهي قوله تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُون} [سورة آل عمران:111].
والآية التي تتلوها وهي قوله تعالى: { * لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون} [سورة آل عمران:113]، ليس فيهما شيئا من جمع السلامة.
([1]) وهي: [سورة البقرة:136]، [سورة آل عمران:84]، [سورة المائدة:44]، [سورة البقرة:61]، [سورة البقرة:177]، [سورة البقرة:213]، [سورة آل عمران:21]، [سورة آل عمران:80]، [سورة آل عمران:81]، [سورة النساء:69]، [سورة النساء:163]، [سورة الإسراء:55]، [سورة مريم:58]، [سورة الأحزاب:7]، [سورة الأحزاب:40]، [سورة الزمر:69].
([2]) وهي: [سورة آل عمران:112]، [سورة آل عمران:181]، [سورة النساء:155]، [سورة البقرة:91]، [سورة آل عمران:112]، [سورة آل عمران:181]، [سورة النساء:155]، [سورة المائدة:20].
========================
([3])مقاييس اللغة (ن ب و)، 5/384، 385
([4])المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، 4/2145.
([5])التَّفْسِيرُ البَسِيْط للنيسابوري 2/606
([6])مقاييس اللغة (ن ب أ)، 5/، 385
([7]) ينظر: شذا العرف في فن الصرف ص: 85
([8])الجامع لأحكام القرآن 1/431.