حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

تذوق “عبد القاهر” الفني في كتابه “دلائل الإعجاز” [الحلقة الرابعة] د. محمد عرفة

الأستاذ المساعد بجامعة الجوف بالمملكة العربية السعودية

المبحث الأول

نماذج لما خالف فيه عبد القاهر غيره في باب التذوق الفني

       تعددت – في كتاب “دلائل الإعجاز”- الشواهد التي أثبت عبد القاهر الجرجاني لها تحليلاً يختلف عن تحليل سابقيه، ورؤية تناقض رؤيتهم، وذلك من خلال منهجه في التذوق الفني الذي كان سمة مميزة له في تناوله لكثير من تلك الشواهد التي زخر بها كتابه”دلائل الإعجاز”.

       وبالإضافة لما تميز به عبد القاهر الجرجاني من منهج تحليلى فنى تذوقي- نعرض لخصائصه لاحقًا- تميز كذلك بشخصية العالم الذي لا يسلم بما يصله من علم، بقدر ما يمحص ويستوثق، ويتثبت قبل أن يصدر حكمه إن كان نفيًا أو إثباتًا، مما جعله- بهذا النهج- يقف على بعض ما كان لغيره رأيٌّ وكان له فيها رأيٌّ آخر.ولم يثنه قداسة سبقهم، وذيوع صيتهم، وشهرة مصنفاتهم عن تفنيد آرائهم، والدفع بما يخالف استنتاجهم ورؤاهم، أعانه علي ذلك رؤية ثابتة واعية متأملة، وذائفة تستعذب فنون القول، تستمتع وتمتع بها.

       ولسنا نجانب المنهج العلمي إن نحن تمادينا في الثناء على عبد القاهر الجرجاني في هذا النهج الذي انتهحه وذلك الصنيع؛ ذلك أن جُلَّ ما وقف عنده عبد القاهر، وأعاد فيه النظر، ثم أصدر أحكامًا مخالفةً لغيره، صارت من بعده الأحكام النافذة، والآراء الصائبة، وما عاد لاحقوه يرددون ما عدل به عن آراء سابقيه، وفي ذلك ما يدل على صحة رؤيته، وسلامة ذوقه، وقوة حجته، وصدق القول فيه من أنه من هذه الطبقة التي تصنع المعرفة، ولا تنقلها نقلاً.

        ومن تلك الشواهد التي خالف فيها عبد القاهر سابقية، وتذوقها على خلاف ما تذوقوا، فحكم بخلاف حكمهم، قول أبي النجم :

              قد أصبحت أم الخيار تدَّعي   

              عليّ ذنبًا كلُّه لم أصنعِ([1])

        عقب عبد القاهر على هذا البيت بقوله:”قد حملة الجميع على أنه أدخل نفسه من رفع (كل) في شىء إنما يجوز عند الضرورة، من غير أن كانت به إليه ضرورة. لأنه ليس في نصب (كل) ما يكسر له وزناً، أو يمنعه من معنىً أراده”.([2])

        وقد كان على رأس هؤلاء الجميع الذين حملوا على الشاعر رفع (كل) دون نصبها، صاحبا “الكتاب”   و”الخصائص” سيبويه وابن جنى، حيث صنَّف سيبويه بيت أبي النجم في حديثه عن (باب ما يكون الفعل فيه مبنيًا على الاسم)، إذ يقول :”ولا يحسن في الكلام أن يجعل الفعل مبنيًا على الاسم ولا يذكر علامة إضمار الأول، حتى يخرج من لفظ الإعمال في الأول، ومن حال بناء الاسم عليه، ويشغله بغير الأول حتى يمتنع من أن يكون يعمل فيه، ولكنه قد يجوز في الشعر، وهو ضعيف في الكلام. قال الشاعر، وهو أبو النجم العجلي:

قد أصبحت أم الخيار تدعي     

عليّ ذنبًا كلُّه لم أصنع

فهذا ضعيف، وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يكسر البيت، ولا يخل به ترك إظهار الهاء. وكأنه قال: كله غير مصنوع”.([3])               

       كذلك ذهب ابن جني إلى أن رفع (كلّ) دون نصبها، إنما هو من قبح الضرورة وكان الأولى ادخارها للحاجة إليها لكيلا تكثر الضرورة بدون مسوغ، ألا تراهم كيف يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على تركها ليعِدّوها لوقت الحاجة إليها. فمن ذلك قوله: (قد أصبحت أم الخيار تدعي …  عليّ ذنبا كلُّه لم أصنع)” ويقول في موضع آخر من الخصائص:” إن العرب قد تلزم الضرورة في الشعر في حال السعة أنسًا بها (واعتيادًا لها)، وإعدادًا لها لذلك عند وقت الحاجة إليها، ألا ترى إلى قوله :

قد أصبحت أم الخيار تدعي…عليّ ذنبًا كلُّه لم أصنع

فرفع للضرورة، ولو نصب لما كُسِر الوزن”.([4])

         كان تذوق عبد القاهر للمعنى الذي أراده الشاعر أدق وأبلغ؛ لأن عبد القاهر كان مهتمًا بقضية المعنى، لا يقف عند اللفظ – كما فعل غيره – فيقع على غير ما هو مقصود من الشاعر. فوقوف سيبويه وابن جني- في نظرتهما لهذا البيت – عند اللفظ، جعلهما يريان نصب (كل) أولى، والرفع خروج إلى ضرورة كان الشاعر في غنى عنها، بينما تفتيش عبد القاهر عن المعنى وتدسسه بين الألفاظ وتأمل مدلولاتها وصولاً إلى المعنى الذي هو مقصد الشاعر، جعله يذهب إلى غير ذلك، “وإذا تأملت وجدته لم يرتكبه ولم يحمل نفسه عليه إلا لحاجة له إلى ذلك، وإلا لأنه رأى النصب يمنعه ما يريد؛ وذاك أنه أراد أنها تدَّعي عليه ذنبًا لم يصنع منه شيئًا البتة لا قليلاً ولا كثيرًا ولا بعضًا ولا كلا. والنصب يمنع من هذا المعنى ويقتضي أن يكون قد أتى من الذنب الذي ادعته بعضه. وذلك أناّ إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل (كل) والفعل منفي، لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضًا كان وبعضًا لم يكن”.([5])

         رأى سيبويه وابن جني أن الشاعر تجاوز النصب إلى الرفع دون ضرورة تلزمه ذلك فكان هذا ضعيفًا، ويرد عليهما عبد القاهر بأن المعنى الذي أراده الشاعر يوجب أن يكون الرفع وليس النصب؛ لأنه ينفي كل الذنب وليس بعضًا منه. هذا التذوق القائم على(معاني النحو) كان سمة من سمات التذوق الفني عند عبدالقاهر الجرجاني، وهو عين نظرية النظم التي أقام عليها كتابيه.

         وبعد أن يعرض الشيخ تذوقه وتحليله، ويستأنس بشواهد وضعية وأبيات شعرية أخرى، يشرع في إثبات المعيار الفني.([6]) والمعيار يتعلق بــ (كل)، التي إذا وقعت في حيز النفي، كان النفي موجهًا إلى الشمول، فيثبت الفعل أو الصفة لبعض دون بعض، أما إن وقع النفي في حيزها كان النفي للجميع. (فلم يأت كل الطلاب) تعني أن هناك بعضًا قد جاء وليس الجميع، بينما (كل الطلاب لم يأت)، تعني أنهم جميعًا لم يأتوا لا البعض ولا الكل، وهذا ما يعنيه عبد القاهر بقوله:” واعلم أنك إذا أدخلت (كلاً) في حيز النفي، وذلك بأن تقدم النفي عليه لفظًا أو تقديرًا، فالمعنى على نفي الشمول دون نفي الفعل والوصف نفسه. وإذا أخرجت (كلا) من حيز النفي ولم تدخله فيه، لا لفظًا ولا تقديرًا، كان المعنى على أنك تتبعت الجملة فنفيت الفعل والوصف عنها واحدًا واحدًا. والعلة في أن كان ذلك كذلك، أنك إذا بدأت (بكل) كنت قد بنيت النفي عليه، وسلطت الكلية على النفي وأعملتها فيه، وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذ شىء عن النفي”.([7])

====================

(1) الشاهد مطلع أرجوزة لأبي النجم العجلي– الفضل بن قدامة بن عبيد الله بن الحارث بن عبدة بن الحارث بن ربيعة بن نزار–  أحد رُجَّاز الإسلام الفحول المُقدمين، وكانت وفاته آخر دولة بني أمية.                                     

– يرجع في ترجمته لطبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي، تحقيق: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1394/1974،2/745.- والأبيات في ديوانه، ص132،133. 

(2) دلائل الإعجاز، ص278.

(3) أبو بشر عمرو بن عثمان سيبويه، الكتاب، تحيق وشرح عبد السلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1397/1977.

(4) أبو الفتح عثمان ابن جني، الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، ج3 ص61،ص303.

(5) دلائل الإعجاز، ص278.

(6) أعني بالمعيار الفني، ذلك المعيار الذي يُنتخب من الشواهد ، لا المعيار المنطقي العقلي الذي يفرض على البلاغة فرضًا.

(7) الدلائل ،ص284، 285. ويؤكد ذات المعنى في موضع أخر بقوله:” وذلك أنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في(كل) والفعل منفي، لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضًا كان وبعضأ لم يكن. تقول: (لم ألق كل القوم) ، و(لم آخذ كل الدراهم)، فيكون المعنى أنك لقيت بعضاً من القوم ولم تلق الجميع، وأخذت بعضاً من الدراهم وتركت الباقي” دلائل الإعجاز،ص278.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu