الفروق الدلالية عند ابن القيم [6] الإثم والعدوان.. بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع
أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم بكلية الدراسات العليا ووكيل كلية اللغة العربية بالقاهرة السابق
يرى ابن القيمّ أن هذين اللفظين إذا أفرد كل منهما تضمن معنى الآخر, وإذا اقترنا فهما شيئان مختلفان بحسب ما يتعلق بكل منهما, فحالهما هو حال لفظي البٍرّ والتقوى, وحال ألفاظ أخرى، أشار إليها ابن القيمِّ حيث قال: “وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند الانفراد، ونظير هذا لفظ الإيمان والإسلام, والإيمان والعمل الصالح, والفقير والمسكين, والفسوق والعصيان, والمنكر والفاحشة, ونظائره كثيرة[1]، “فالإثم والعدوان في جانب النهي نظير البر والتقوى في جانب البر”[2]، وهما مقابلان لهما في الآية، فالبِرُّ قابله الإثم، والتقوى يقابلها العدوان.
لقد قرنت سورة المائدة بين لفظي الإثم والعدوان، حيث انفرد كل منهما بمعنى في هذا السياق, يقول ابن القيمّ “وأما الإثم والعدوان فهما قرينان … وكل منهما إذا أفرد تضمن معنى الآخر, فكل إثم عدوان, إذ هو فعل ما نهى الله عنه, أو ترك ما أمر الله به, هو عدوان على أمره ونهيه، وكل عدوان إثم, فإنه يأثم به صاحبه, ولكن عند اقترانهما فهما شيئان بحسب متعلقهما ووصفهما”[3].
فرق بينهما ابن القيمّ في هذا السياق حيث اقترنا، فـ “الإثم ما كان محرّم الجنس، كالكذب والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك, والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة، فالعدوان: تعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم والزيادة, كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه, إما بأن يتعدى على ماله, أو بدنه أو عرضه … وإذا أتلف عليه شيئاً أتلف عليه أضعافه، وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها, فهذا كله عدوان وتعَدٍّ للعدل”[4]، وقال في موضع آخر: “والفرق ما بين الإثم والعدوان فرق ما بين محرم الجنس ومحرم القدر، فالإثم ما كان حراماً لجنسه, والعدوان ما حرم لزيادة في قدره وتعدي ما أباح الله منه”[5].
لقد أدرك العلماء الفرق بين اللفظين في الدلالة “فالإثم: كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائله, والعدوان: التعدي على الناس بما فيه ظلم”[6]. ويرى الراغب أن الإثم يقابل البرّ, وهو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب[7]، وإلى هذا أشار ابن فارس أيضاً حيث جعل المادة تدل على أصل واحد, وهو البطءُ والتأخر، … والإثم مشتق من ذلك؛ لأن ذا الإثم بطيء عن الخير متأخر عنه, وهو مأخوذ من الناقة الآثمة, وهي المتأخرة[8]. أما العُدوان فهو من العَدْو, وهو التجاوز، ومعناه الالتئام, فتارة يعتبر بالقلب, فيقال له العداوة والمعاداة, وتارة بالمشي, فيقال له العَدْو, وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة, فيقال له العدوان والعَدْو”[9].
وحصر الكفوي الإثم فيما يستوجب العقوبة عليه فقط، فقال: “الإثم: الذنب الذي يستحق العقوبة عليه, ولا يصح أن يوصف به إلا المحرم, سواء أريد به العقاب, أو ما يستحق به من الذنوب”[10]، وكلامه فيه نظر, إذ إن الإثم لفظ عام يشمل الكبائر والصغائر, وإن غلب استعماله في الكبائر, لكن القرآن نص صراحة على كبائر الإثم؛ فقال تعالى: “الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم”[11] وهذا يقتضي أن هناك صغائر الإثم أيضاً[12], وفسر الخليل العدوان بالظلم البراح[13]. ولما كان الإثم ما كان حراماً لجنسه – كِما قال ابن القيم – فإن البعض فسّره بجزء من معناه, فهو القمار, والخمر، والكذب, والزني, والسرقة، وغيرها, باعتبار أن كلاً منها يأثم صاحبه بارتكابه[14].
ومن هنا يتضح أن الإثم والعدوان قرينان، قد يأخذ أحدهما موقع صاحبه إذا انفرد, لكن تظل بينهما فروق دلالية في حال الاقتران، فالإثم ما كان حراماً لجنسه, وهو مبطئ عن الخير أو الثواب، مستوجب للعقوبة – كما رأى الكفويّ – يستعمل غالباً في الكبائر. أما العدوان فهو تجاوز الحق, والظلم البراح, أو الصراح، وفيه إخلال بالعدالة في المعاملة. كذلك ترى أن الأصل الاشتقاقي للمادة له دور أصيل في تفسير كل كلمة منهما, فالإثم مأخوذ من أثمت الناقة: إذا تأخرت, والعدوان من عداً يعدو إذا تجاوز الشيء إلى غيره, ومنه عدا طوره, أي جاوزه. كما يبرز دور السياق في تعدد المعنى لكل لفظ منها, فمن خلال ورود الألفاظ في سياقات متعددة في القرآن الكريم والسنة النبوية اجتهد العلماء في استنباط المعنى من كل سياق وردت فيه الكلمة, ومن ثم ورد الإثم بمعنى الخمر والميسر والكذب, وما تلجلج في الصدر, والكبائر وغيرها, كذلك يأتي العدوان بمعنى الظلم, ومجاوزة الحد والإخلال بالعدالة … الخ.
========================
[1] الضوء المنير 2/327
[2] السابق 2/330
[3] مدارج السالكين 1/374
[4] السابق 1/375
[5] الضوء المنير 2/330
[6] فتح القدير 2/10
[7] المفردات ص 19
[8] مقاييس اللغة 1/60
[9] المفردات ص 328
[10] الكليات ص 40
[11] سورة النجم آية 32.
[12] معجم الفروق الدلالية في القرآن الكريم د. محمد داود ص 37
[13] العين 2/213 “عدو” وفي مقاييس اللغة 4/249 “عدو” الظلم الصراح ونسبه للخليل أيضاً
[14] اللسان والقاموس “عدو” الصبح المنير 2/330