مقاربة أيكولوجية في خريدة (الرجل البدائي) الجيمية للشاعر عبدالحميد بدران.. بقلم أ.د/ صبري أبو حسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات، بجامعة الأزهر
“عبدالحميد بدران” اسم أديب مصري غرباوي ريفي أزهري، متكامل نفسيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا وأدبيًّا بطريقة خاصة جدًّا، فهو منسجم مع نفسه والآخرين، ومع محيطه الداخلي والخارجي، يجمع بين خلال ثلاث قلَّما يتحققن في شخص: (الصفاء والوفاء والنزعة العَمَلية). فليس هو ممن يستعلي علينا أو يتعالم أو يشحذ الثناء أو يتسربل بما ليس فيه، وليس هو ممن يتربص أو يكيد أو يتجاهل أو يفرط في حق الآخرين، وليس هو ممن يريد من الآخرين سمَّاعين وفقط! وليس هو ممن يفرض على الآخرين بضاعته، وليست بضاعته كاسدة تحتاج مُرَوِّجًا، وليس هو ممن يجتر قديمه ويتاجر به ليل نهار! وليس هو بالمتشنج ولا المتهور ولا المتملق ولا المتسلق ولا المتظالم، على النحو الذي نراه في واقعنا الافتراضي الغاشم الجاثم، يحيا بإبداع، ويحيا لإبداع، يحيا للقلم، ويحيا بالقلم! وهذه الثلاثية (الصفاء والوفاء والنزعة العَمَلية) جعلت منه (قائدًا) غير منظور، و(قائدًا) نحتاجه، و(قائدًا) فيه الخير الكثير، و(قائدًا) يبني ويعطي ويتفانى ولا ينتظر أجرًا ولا فائدة ولا عرضًا من أعراض الدنيا، تأتيه الدنيا راغمة ولا يأتيها، إنه التقي النقي الصفي الوفي، أقول ذلك عن عشرة، وأقول ذلك عن قراءة في آثاره علمية وأدبية، وأقول ذلك عن طريق مشاركته في مشروع عن علمي فذ هو تأسيس المؤتمر الدولي الأول لمدرسة شباب النقد الأدبي، وأقول ذلك عن تنبؤ(ولنقل تفرس) واستشراف، وأقول ذلك عن سماع لا ينتهي من أساتذته وأترابه وطلابه، وأحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدًا….
وتأتي جيميته (الرجل البدائي) دليلاً إبداعيًّا على ما أقول: طلقة شعرية ضد عالم المادة، وعالم النرجسية، وعالم التكنولوجيا، طلقة شعرية ضد الافتراضيين والمفروضين، والمرفوضين والرافضيين عقليًّا لا عقديًّا ! دليلاً أبهرني، دليلاً جذبني وجبذني، دليلاً فرض علي التلقي الإيجابي الفوري له، دليلاً إبداعيًّا على حياة الإبداع الأزهري وحيويته وحداثته! ما إن قرأت هذه الخريدة البدرانية المحضة حتى قلت: نص يستدعي المقاربة الأيكولوجية استدعاء، وقالت نفسي الأمارة عقب قراءته: قاتل الله من زعم موت المؤلف، ومن روج لذلك، ومن طبق ذلك، ومن اقتنع بذلك. إن(الرجل البدائي) تجربة لا يمكن فصل المبدع فيها عن الإبداع، ولا يمكن قراءتها بعيدًا عن مبدعها، جمالها في هذا التمازج والانسجام العجيب بين الإنسان والمكان. إنها نص بيئي صرف: من البيئة خرج، وفي البيئة دار، وعن البيئة عبر، وإلى بيئة صحية خضراء دعا! وهذا ما يدعونه(الأيكولوجية)!
وما إطلاقي لفظة(الأيكولوجية)-ذلك اللفظ الدخيل المولد المفروض بفعل الضعف العروبي الآني- نوع من التعالم، ولا نوع من التفاخر بالحداثة، ولكنه وسيلة لجذب المتلقي إلى هذا المنهج النقدي الطازج الوافد إلينا، عبر النقلة العرب، من بني الأحمر والأغبر!
والتعريف العملي الذي وضعه منظرو الأيكولوجية أو دعاة النظرية النقدية المتعلقة بالبيئة هو أن “النظرية النقدية المرتبطة في البيئة تدعو إلى دراسة العلاقة بين الأدب والبيئة الطبيعية، عن طريق استعادة الكرامة المهنية بكتابة أنواع الطبيعة المحبوسة القيمة، ولهذه النظرية موقف أخلاقي تتخذه وتلتزمه نحو العالم الطبيعي المهم فيها ولها، وليست الأيكولوجية دراسة مواضيعية أو موضوعاتية فقط بل لابد فيها من المزج بين الشكل والمضمون معًا، باعتبار أن الشكل بيئة العمل الأدبي، والمضمون روحه وشعلته!
وفي تجربة عبدالحميد بدران نجد النزعة الأيكولوجية بادية في كل بيت، بل في كل شطر، بل في كل جملة، ولا أبالغ حين أقول: في كل مفردة! إنها سيرة شعرية مكثفة، تمتزج فيها الذات مع الآخر، مع الأجيال السالفة والأجيال القادمة، مع الريف، مع الكتاب، مع المكان، مع الزمان، مع النبات، مع الحيوان، مع الجماد، مع اللغة، مع العشق، عبر تسعة عشر بيتًا!
ولنقف أولا مع مطلعه:
انا رجل بدائيُّ المزاج بكشّافٍ ومِسبحة سِراجي
نجد أنفسنا مع قالب إيقاعي وافري متحرك لذيذ، وتزداد اللذاذة بألف الردف وياء الوصل، ومع هذا الروي الجيمي الصادم بغرابته وندرته، وحق لشاعرنا أن يختاره إن قصد إليه أو يقبله أن أتاه عن طريق أَتِيِّ؛ لأن فكرة النص غريبة ونادرة! ومع أننا أمام جيمية إلا أننا لا نجد في قوافيها كلمة حوشية أو غريبة أو مجتلبة، وهذا دال على طبعها وكونها دفقة واحدة، من بيئة واحدة، ومن نفس واحدة، يبدأ النص بالضمير المهيمن(أنا) فمن يخاطب شاعرنا؟ أيخاطب نفسه تنبيهًا، أو يخاطب غيره إرشادًا؟ ولماذا هذه اللفظة المتعصبة(رجل) وليس لفظة(إنسان) التغليبية! ثم تكون اللفظة المفتاح(بدائي) وما فيها من إيحاء بالصفاء والنقاء والخضرة والبياض والفطرة! ثم اللفظة النفسية الخاصة(المزاج) وما فيها من هوى وعشق ورغبة وشهوة وإرادة! ثم يأتي العجز معبرًا عن مرجعية بدران في الحياة(كشاف) و(مسبحة) يمثلان (سراجه)، حيث الإعلان عن النزعة الثقافية الصوفية المستنيرة! ومع أن النرجسية سمة كثير من الشعراء إن لم أقل كلهم! إلا أن التعبير الاستفتاحي: (أنا رجل بدائي) يعلن عن مبدع متواضع، مستريح لهذا التواضع، يتخذه شعارًا، ويراه دواء كما سنرى في محطات القصيدة التالية…
وينتقل بنا شاعرنا في جيميته نقلات ثلاث، وكل نقلة تبدأ بالضمير المهيمن(أنا)! وتمثل الثلاثية البانية: البيئة، النشأة، الثقافة، والبيئة واسطة عقدها، فالنشأة والثقافة كانتا في البيئة ومنها، يقول في النقلة الشعرية الأولى:
أنامُ على سريرِ الريف كهْلا تُهدهدهُ وتحضِنه الدّياجي
وأسرحُ في حقول النيل طفلا يرفرفُ أو يلقّط كالدجاجِ
أمرّغ جبهتي في حِجر أمي وأغزلُ من خُيوط الحقل تاجي
وأعزفُ من سِلال العشق لحنا أنقّرهُ على شفةِ الزجاج
وأغرفُ من جبين أبي وأمي فصولا لا تملُّ من احتياجي
إنها البيئة الأولى، وإنها الأماكن المصرية الخاصة جدًّا والمؤثرة جدًّا، حيث (الريف)، و(حقول النيل)، و(حجر الأم)، و(خيوط الحقل)ـ أربع بيئات تتدرج وتتنوع وتتواصل، لتخرج عبدالحميد بدران، وملايين أمثال عبدالحميد بدران، كأنني بشاعرنا يقول في هذا المقطع الشعري: (يحيا الريف المصري)، و(تحيا بيئة مصر)، والحل والخلاص في (العودة إلى بيئة مصر الأولى) تلك الولادة المعلمة المربية المنتجة المعمرة! ومن ثم يهيمن الفعل المضارع الذاتي:(أنام/ أسرح/أمرغ/ أعرف/أغزل/ أنقر) ليعلن عن حيوية هذه البيئات واستمرار فعلها الأخضر الإيجابي فيه، ومن ثم كان حرصه الشديد والشفيف عليها!
وتمتزج هذه البيئة بالإنسان الأصل، أو لنقل(البيئة البشرية الأولى(الأم والأب)، هذان اللذان لهما فصول لا يمل من الاحتياج إليهما شاعرنا!
وتأتي النقلة الثانية عن البيئة الثانية الأكثر خصوصية، والمطورة لأخلاقيات الشاعر وسلوكياته، حيث يقول:
أنا رجل بدائي وأمي ببطن الريف قد ألقتْ رتاجي
أقام القمحُ بين دمي وجلدي ولوّن مشرقُ الشمس ابتهاجي
فطوري بسمةٌ بفم بريء وثغر لا يحضّ على اعوجاجِ
ودمعي من ضلوع شاهقات أبثُّ شجونها مُرّ انزعاجي
عرفت شريعتي في لين جدّي وصوتِ مؤذن ورجاءِ راجي
فصُمتُ ولم يزل بالصمت رطبا لسانُ أبي إذا كثر احتجاجي
ونمتُ وليس في شفتي اشتهاء للذة مزحة أو لانفراج
يبدأ الشاعر بالبيئة الكلية المؤسسة(بطن الريف) ثم يفصل عناصرها: القمح/مشرق الشمس/البشر البريء براءة الفطرة: بسمة، وثغرًا، ودمعا، ولينًا، وصوت مؤذن، وصومًا، وصمتًا! وما أدل توظيف القمح هنا! وما أشعر أثر الشمس هنا! وما ألذ تمازج البيئة بالإنسان بالمشاعر في بوتقة موحية قائلة! إنها بيئة الطهارة حيث (فم بريء)، و(ثغر لا يحضّ على اعوجاجِ)، و(لين جدّ)، و(وصوتِ مؤذن ورجاءِ راجي)، و(لم يزل بالصمت رطبا لسانُ أب) عند مواجهة( شجون) ة(مُرّ انزعاج) و(احتجاج)، إنها البيئة الريفية الدلتاوية الفلاحية السحرية الآمنة المُؤَمِّنة التي لا قلق فيها، ولا قلق معها ولا قلق منها! والتي ينتهي فيها صراع الأجيال(الجد/الأب/الحفيد) بهدوء وصمت وأدب ووقار فلا اشتهاء لمزحة أو انفراج منفلت!!
وتأتي النقلة الثالثة: البيئة الثقافية الممتزجة بسحر الطبيعة النهارية والليلية، حيث يقول شاعرنا:
أنا رجل بدائي شفيف تذوّبه من اللغة الأحاجي
يُدير مع النجوم حديث عشق له في كل ناصية سواجي
وتحفره على شجر المآقي ملامح لا تملّ من انبلاج
ويُنشده بأنفاس العصاري هوى مَنْ باسمها عَشِق التناجي
ويجرح سمعُهُ ما قد تلاشى من الإصرار في غرف المساج
فاللغة عنصر ثقافي، وليست اللغة العادية أو التقليدية أو السطحية بل اللغة العليا، لغة النخبة(الأحاجي)، و(النجوم) عنصر بارز في البيئة السماوية الليلية، و(شجر المآقي) بيئة أرضية مُلَطِّفة، و(أنفاس العصاري) لا تجدها إلا في بيئة خضراء نقية شافية واقية، ولفظة (العصاري)من معجم البيئة المصرية الحياتية الخاصة جدًّا، حيث(شاي العصاري)، و(قعدة العصاري)، و(عمل العصاري)!
وبعد عرض الشاعر لهذه البيئة الريفية الفطرية النقية البيضاء الخضراء، نجده يُعَرِّض بيئة أخرى وافدة مُشتَراة مستورة مفضوحة: (غرف المساج)، بيئة المستلبين أو المأجورين أو الفاحشين الممكيجين، الذين لا براءة عندهم ولا صدق عندهمـ ولا طهر عندهم، ينغمسون في الشهوات ويشيعونها ويزينونها، ويبغونها عوجًا!
ثم يأتي الشاعر ببيت الختام مقررًا ما صور في المطلع والنقلات الثلاث، قائلاً:
أنا رجل بدائي مريض وشُرفةُ مَنْ سبتْ قلبي علاجي
مضيفًا بعدًا رومانسيًّا إلى النص، حيث البيئة العاطفية(شرفة من سبت)، وهي من بيئة عالية خاصة، فيها علاجه، من أمراض ذوي المساج، الذين أراهم القارئ الضمني لهذا النص، وأراهم المخاطب المقصود منه، فليتهم يعلمون، فيرجعون عن المَكْسجة والمَنْتجة والمَكْيجة، التي هي كذب وزور وبهتان ولغو ولهو وباطل!