حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

تذوق “عبد القاهر” الفني في كتابه “دلائل الإعجاز” [الحلقة الخامسة] بقلم د. محمد عرفة

الأستاذ المساعد بجامعة الجوف بالمملكة العربية السعودية

وقصة أبيات ذي الرمة([1])، نموذج آخر على منهج التذوق الفني عنده. فعبد القاهر لم يسبق – في هذه الأبيات – إلى التذوق الصائب للمعنى، والرد على من اختلط عليه الأمر، وإنما الذي فعله هو( الحكم بن البحتري بن المحتار) أبو (غيلان بن الحكم) الذي ذكره عبد القاهر كما تحكي لنا القصة. لكنه أعاد التأمل والتدقيق وأصَّل معيارًا بلاغيًا، إذ يقول:”وليس الأمر كالذي ظناه، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل: (لم يكد يفعل) و(ما كاد يفعل)، أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله ولا قارب أن يكون، ولا ظُنَّ أنه يكون”.([2])

        ولأن الشيخ لا يترك أبياته دون طويل تأمل وكثير نظر وتدبر، فلم يغادر البيت إلا وقد برهن على صواب رؤيته وتحليله بلمحة بلاغية،”وهـهنا نكتةٌ، وهي أنّ (لم يكد) في الآية والبيت – يعني بيت ابن شبرمة- واقع في جواب (إذا)، والماضي إذا وقع في جواب الشرط على هذا السبيل، كان مستقبلا في المعني، .. وإذا كان الأمر كذلك، استحال أن يكون المعنى في البيت أو الآية على أن الفعل قد كان، لأنه يؤدي إلى أن يجىء (بلم أفعل) ماضيًا صريحًا في جواب الشرط فتقول: (إذا خرجت لم أخرج أمس)، وذلك محال”.([3]) ومن ثم، فالدقة في التحليل والتدبر والتأمل الطويل- التي هي من سمات تذوقه الفني- جعله يذهب إلى غيرما ذهبوا إليه، بل ويتعجب من اختلاط الأمر على من هم في قامة ابن شبرمة وذي الرمة، فيقول: “فإذا بلغ من دقة هذه المعاني أن يشتبه الأمر فيها على مثل خلف الأحمر وابن شبرمة، وحتى يشتبه على ذي الرمة في صواب قاله، فيرى أنه غير صواب، فما ظنك بغيرهم؟!”. ([4])

     وتتجلى براعة التذوق الفني عند عبد القاهر الجرجاني في تحليله لبيت ابن المعتز([5]).

       وإِنّي على إِشْفاقِ عَيْني منَ العِدى … لَتَجْمَحُ مِنّي نَظْرَةٌ ثمَّ أُطْرِقُ

     وهو في تذوقه لهذا البيت، لا أراه يعارض تذوقًا أو تحليلاً فنييًا وإنما يعارض اتجاهًا يرى المزية في اللفظ، ويقف عند لفظ الاستعارة فيرى فيها الفضل كله، ويؤكد”أن هذا- أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون في النظم- باب يكثر فيه الغلط، فلا تزال ترى مُستَحْسَنًا قد أخطأ بالاستحسان موضعه، فَيَنْحَلُ اللفظ ما ليس له، ولا تزال ترى الشبهة قد ذخلت عليك في الكلام قد حسن من لفظه ونظمه، فظننت أن حسنه ذلك كله للفظ منه دون النظم”.([6])

       وعادة عبد القاهر أن يعرض الرؤية الراسخة في الأذهان على أنها حقائق، ثم يعلن قصور هذه الرؤية ثم يقوم بعرض تذوقه هو، وأحيانًا يشرح ويبين، وأحيانًا يقف على مواطن المزية التي بها يميز كلامه عن كلام مخالفيه.

       الثابت في الأذهان عند سماع بيت ابن المعتز هو أنك “ترى أن هذه الطلاوة، وهذا الظرف، إنما هو لأن جعل النظر (يجمح)، وليس هو لذلك”.([7])وبعد أن يعرض الرؤية المخالفة، والتذوق الذي لا يرضيه، يشرع في عرض تحليله وتذوقه، فيرى أن هذه الطلاوة وهذا الظرف” لأن قال في أول البيت (وإني) حتى دخل اللام في في قوله (لتجمع) = ثم قوله (منى)= ثم لأن قال (نظرة) ولم يقل (النظر) مثلاً = ثم لمكان (ثم) في قوله: (ثم أطرق)= وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف، وهى اعتراضه بين اسم (إن) وخبرها بقوله: (على إشفاق عيني من العدى)”.([8])

       هكذا- بوقوفه عند مواضع المزية التي اكسبت البيت ظرفه وطلاوته- يدلك على ضحالة تذوقهم وسطحية تحليلهم للبيت، فتلمس محاسن كلامٍ لم يتحسسوه. لكنه أشار وسكت، تلمس المواضع ووقف عليها دون أن يبينها، وهو ما دفع البعض إلى الاعتراض عليه بالقول بأنه اكتفى” بهذا البيان الموجز في شرح جمال النظم. وإن وراء هذا الإيجاز لشرحًا طويلاً، كان على صاحب الدلائل أن يأتي به؛ ليذوق القارئ به أسرار حسن النظم الذي جاء به ابن المعتز.فليت شعري، أكان وضوحه أمام عينيه مظنة اعتقاده بأنه واضح أمام قارئيه.([9])

       والحق، إن تتبع منهج الشيخ في تذوقه عبر”الدلائل” يقول بغير ما ظُنَّ به؛ فتكرار الوقوف عند مواطن المزية والاكتفاء بالإشارة دون الإطالة، يدل على أنها وسيلة من وسائل عديدة عمد إليها الشيخ لتدريب ذائقة متلقيه، وإتاحة المجال أمام اتساع دائرة التذوق والتأمل والتحليل، بل لا أبالغ إذا اعتبرت هذا المسلك المشوق من عبد القاهر – في مصنفه هذا – كان أحد أسباب- كثيرة- جعلت لكتابه هذا حظًا وافرًا من الاهتمام بين دارسي العربية إلى يومنا هذا. ([10])

(4) القصة مذكورة في الأغاني والموشح ببعض اختلاف في أسماء الرواة عن القصة التى ذكرها عبد القاهر حيث يقول: “روي

عن (عنبسة) أنه قال : قدم “ذو الرمة” الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها :

هِيَ البُرْءُ والأسْقامُ والهَمُّ والمُنى … ومَوْتُ الهَوى في القَلْبِ مِنّي المبرِّحُ

                              وكانَ الهَوى بالنَّأي يُمْحَى فَيَمَّحي … وحبُّكِ عِنْـــــدي يَسْتَجِــــدُّ ويَـــرْبَـــــــــــــحُ

                              إِذا غَيَّرَ النَّأيُ المحبّينَ لمْ يَكَـــــــدْ … رَسِيْسُ الهَــــــــوى من حُبِّ ميَّةَ يَبْــــرَحُ                    

قال: فلما انتهى إِلى هذا البيتِ ناداه ابنُ شُبرُمَةَ : يا غَيْلانُ: أراه قد برحَ! قالَ فشنقَ ناقَتَه وجعلَ يتأخرُ بها ويتفكَّر ثم قال:

                                  إِذا غَيَّرَ النّأيُ المُحِبِّينَ لم أَجِدْ … رَسِيسَ الهوى من حُبِّ ميّةَ يَبْرحُ

 قال : فلما انصرفتُ حدثتُ أبي قال : أخطأَ ابنُ شُبْرُمة حين أنكر على ذي الرُّمة وأخطأ ذو ذو الرُّمة حين غيَّر شعرَه لقولِ ابن شبرمة إِنما هذا كقولِ الله تعالى: ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ إِذَا أَخرجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ) (سورة النور: 40). وإِنما هُوَ لم يَرَها ولم يَكَدْ”.- دلائل الإعجاز، ص274، 275.

 ========================

(1) القصة مذكورة في الأغاني والموشح ببعض اختلاف في أسماء الرواة عن القصة التى ذكرها عبد القاهر حيث يقول: “روي

عن (عنبسة) أنه قال : قدم “ذو الرمة” الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها :

هِيَ البُرْءُ والأسْقامُ والهَمُّ والمُنى … ومَوْتُ الهَوى في القَلْبِ مِنّي المبرِّحُ

                              وكانَ الهَوى بالنَّأي يُمْحَى فَيَمَّحي … وحبُّكِ عِنْـــــدي يَسْتَجِــــدُّ ويَـــرْبَـــــــــــــحُ

                              إِذا غَيَّرَ النَّأيُ المحبّينَ لمْ يَكَـــــــدْ … رَسِيْسُ الهَــــــــوى من حُبِّ ميَّةَ يَبْــــرَحُ                    

قال: فلما انتهى إِلى هذا البيتِ ناداه ابنُ شُبرُمَةَ : يا غَيْلانُ: أراه قد برحَ! قالَ فشنقَ ناقَتَه وجعلَ يتأخرُ بها ويتفكَّر ثم قال:

                                  إِذا غَيَّرَ النّأيُ المُحِبِّينَ لم أَجِدْ … رَسِيسَ الهوى من حُبِّ ميّةَ يَبْرحُ

 قال : فلما انصرفتُ حدثتُ أبي قال : أخطأَ ابنُ شُبْرُمة حين أنكر على ذي الرُّمة وأخطأ ذو ذو الرُّمة حين غيَّر شعرَه لقولِ ابن شبرمة إِنما هذا كقولِ الله تعالى: ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ إِذَا أَخرجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ) (سورة النور: 40). وإِنما هُوَ لم يَرَها ولم يَكَدْ”.- دلائل الإعجاز، ص274، 275.

(2) دلائل الإعجاز، ص275.

(3) دلائل الإعجاز، ص277.

(4) السابق، الصفحة نفسها.

(5) البيت بديوان ابن المعتز طبعة دار المعارف، 1/388، ولا يوجد بديوانه طبعة دار صادر، وهو ما أشارت إليه الدكتورة نجاح الظهار في رسالة الدكتوراه” الشواهد الشعرية في كتاب دلائل الإعجاز”، وأشارت كذلك إلى أنه” على الرغم من بلاغة البيت، ولطافته وحسنه، إلا أنه نادر الوجود في كتب العربية وآدابها”، وعددت أسماء أربعة وثلاثين كتابًا من كتب اللغة بحثت فيها عن البيت ولم تجد له ذكرًا، وهو ما يؤكد سبق الشيخ عبد القاهر إلى تذوقه وتحليله.

يرجع لرسالة الدكتورة نجاح الظهار”الشواهد الشعرية في كتاب دلائل الإعجاز”، ص293،294

(6) دلائل الإعجاز، ص98.

(7) دلائل الإعجاز، ص99.

(8) السابق، الصفحة نفسها.

(9) عبد القاهر الجرجاني، أحمد أحمد بدوي، مكتبة مصر، القاهرة،ط2،ص122.

(10) قامت الدكتورة نجاح الظهار ، بتحليل ما أشار إليه الشيخ من مواطن المزية في هذا البيت تحليلاً جيداً وبينت مواطن البلاغة فيما وقف عنده الشيخ.

– يرجع لرسالة الدكتوراه”الشواهد الشعرية في كتاب ؛ دلائل الإعجاز،ص295-297.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu