حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

التجديد في فكر الإمام الطيب [الحلقة الثانية] بقلم أ.د/ مصطفى فاروق عبد العليم

أستاذ الأدب والنقد في جامعة الأزهر

   “فغرضنا من هذه الحلقة وما بعدها من حلقاتٍ أمران: الأوَّل- أنْ يزدادَ المسلمُ عِلمًا بأن مبادئَ الدِّينِ الذي يعتنقُه؛ وهو: الإســــــلامُ، تُحـــــقِّــــقُ -نظريًّا وعمليَّا- سعادةَ الفردِ وسعادةَ المجتمعِ، في الدُّنيا والآخرةِ. والأمر الثاني- أنْ يقتنعَ غيرُ المسلمِ -مِمَّن قد يشاهد هذه الحَلَقاتِ- أنَّ الإسلامَ ليس كما يصوِّرُه أعداؤه: دينَ دماءٍ وحروبٍ وتضييقٍ على مُعتنقِيه. وإنَّما هو -على العكسِ- دينُ سَلامٍ وتعاونٍ وتسامُحٍ ورحمةٍ مُتبادَلةٍ بينَ النَّاسِ، بل بينهم وبين الحيوانِ والنباتِ والجمادِ، شأنُه في ذلك شأنُ سائرِ الأديانِ الإلهيَّةِ السابقةِ في الرحمة بالخلق، وانتشالِ الإنسان من أوحالِ الضَّلالِ، وهدايتِه للتي هي أقومُ، كلما تفرَّقَت به السُّبلُ، واشتبهَت عليه المسالكُ، وضاعَ الطريقُ من تحتِ قدمَيه..”

الحلقة الأولى من برنامج “الإمام_الطيب” 2021م/ 1442هــ

    يُمثّل (برنامج الإمام الطيب- رمضان ٢٠٢١م / ١٤٤٢ هـ) أنموذجًا ناضجًا يسمح بالاقتراب من فكر التجديد عند فضيلة الإمام الأكبر؛ إذ عرض فيه خصائص الدين الإسلامي، ومعنى وسطية الإسلام، ومظاهر هذه الوسطية، وتجديد الفكر الإسلاميّ، ويسر الشريعة الإسلامية وسماحتها…

     لقد توفرت في خطاب فضيلته تقنيات الحِجاج وروافده، فالباث هو فضيلة الإمام صاحب المكانة الرفيعة، والحق أقول: هو أرفع الناس قدرًا، وأفضلهم سلفًا، وأغزرهم علمًا، وأعظمهم حلمًا…، أما المستقبِل فالبشرية كافة، والزمان شهر رمضان المبارك، والمكان عبر قنوات وإذاعات، ومواقع إلكترونية، ووقفنا في خطاب فضيلته على الآليات اللغويّة، والبلاغية، والمنطقية؛ مما يجعل خطابه خطابًا حِجَاجِيًا بامتياز.

أولًا- سياق الموقف في البرنامج:

   إلقاء الضوء -ولو بإيجاز- على سياق الموقف في البرنامج الرمضانيّ في نسخته الخامسة الذي يقدّمه فضيلة الإمام الطيب ضرورة ملحة، يتطلبها التحليل الحِجَاجي؛ إذ يؤطِّر هذا الخطاب، ويبرز البُعد الإقناعي فيه، ونعني بسياق الموقف: المحيط غير اللغوي الذي يُبرز الخطاب ويوضحه، فيشمل الملابسات الملتصقة بالبرنامج، كما أنّ الحلقة الأولى من البرنامج، التي قال فيها فضيلة الإمام الأكبر “فغرضنا من هذه الحلقة وما بعدها من حلقاتٍ أمران: الأوَّل- أنْ يزدادَ المسلمُ عِلمًا بأن مبادئَ الدِّينِ الذي يعتنقُه؛ وهو: الإســــــلامُ، تُحـــــقِّــــقُ -نظريًّا وعمليَّا- سعادةَ الفردِ وسعادةَ المجتمعِ، في الدُّنيا والآخرةِ. والأمر الثاني- أنْ يقتنعَ غيرُ المسلمِ -مِمَّن قد يشاهد هذه الحَلَقاتِ- أنَّ الإسلامَ ليس كما يصوِّرُه أعداؤه: دينَ دماءٍ وحروبٍ وتضييقٍ على مُعتنقِيه. وإنَّما هو -على العكسِ- دينُ سَلامٍ وتعاونٍ وتسامُحٍ ورحمةٍ مُتبادَلةٍ بينَ النَّاسِ…” تبرز لنا المناسبة بين حلقات البرنامج، وأطرافها، وسياقها الذي هو -وكما أشرنا سابقا- يُعد سياقًا حِجَاجيًا بامتياز.    

    ننتهي إلى أنّ الحديث عن الباث، والمتلقي وتحليل أوجه العلاقة بينهما أمر مهم في دراسة أي خطاب حِجَاجي، ذلك أنّ وضعية كل من طرفي الخطاب، ونوع العلاقة بينهما، تشكلان نقطتي اختلاف رئيستين بين البرهنة الرياضيّة، أو المنطق الصوري من جهة، والحجاج من جهة أخرى، فمن البرهنة والمنطق إلى الحِجَاج يتخذ دور الباث نسقًا تصاعديًا، فإذا كان لا دخل له البتة في نجاعة البرهنة، وصحة الاستدلال المنطقي، فإنّه يصبح أساسًا متى تعلّق الأمر بتقنيات الإقناع في الخطاب الحجاجيّ؛ لأنها تشكّل حجر الزاوية فيه. (الدّريدي،2011، 34)

– المرسِل:

    في حلقات البرنامج الرمضانيّ المرسِل هو الإمام الأكبر الدكتور/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر. وتوفّرت لفضيلته من الأسباب ما جعلته يتبوَّأ مكانة رفيعة لدى البشرية كافة في مشارق الأرض ومغاربها-ولو بسطنا القول فيها لعجزت المجلدات عن حصرها- ففضيلته يملك فكرًا حجاجيًا نبع من موهبته الفطرية، إلى جانب اكتساب هذا الفكر من معتقده الوسطيَ الأشعريّ، ودراسته للعقيدة والفلسفة في جامعة الأزهر، وفضيلته أكاديمي متخصص في الفلسفة التي درس أصولها في فرنسا، وعمل فضيلته في عدة جامعات، منها: جامعة الإمام محمد بن سعود، وجامعة الإمارات، والجامعة الإسلامية العالمية – باكستان. هذه الأمور وغيرها التي لا تستطيع هذه الدراسة الإحاطة بها، كانت عاملًا مهمًا في تشكيل شخصيته الحِجاجية. لعل من أبرزها -أيضًا- ما ذكره د/ناجح إبراهيم، في مقاله المعنون (د/أحمد الطيب سيرة ومسيرة) في صوت الأزهر (2018) وفي بوابة الشروق الإلكترونية (2020)، نجملها في النقاط التالية:

1- أصله الشريف: فجده الأكبر الطيب هو ابن أحمد عبيد الذي قام بثورة في الصعيد، عندما وهب محمد علي أراضي الصعيد الخصبة للمماليك الذين تصالح معهم وقادة الألبان والجراكسة، وحوّل الفلاحين إلى خدم وعبيد لهم …

2-زهده وتصوفه: لقد تخلى فضيلة الإمام عن راتبه وبدلاته، وأمعن في الزهد حينما أعاد كل المرتبات التي أخذها قبل ذلك، ورفض هدايا تقدر بالملايين من أمراء في الخليج دون تردد.

3-حلمه: رفض فضيلة الإمام أن يجره البعض إلى معارك جانبية، تصرف الأزهر عن عظمة الرسالة التي يحملها، فقد شتمه شباب الإخوان عامًا كاملًا، فأبي أن يرد عليهم، وهاجمه بعض الإعلاميين الذين يعلم الجميع نفاقهم لكل ذي سلطة، ولكنه لم ينجر إلى معاركهم الكلاميّة.

4-نصرة القدس: المؤتمر العالمي الوحيد الذي عُقِدَ نصرة للقدس، وجمع فيه الشيخ أصحاب الديانات الثلاثة الكبري لنصرة قضية جامعة مثل القدس، ورفض فضيلته مع البابا تواضروس استقبال نائب الرئيس الأمريكي ترامب عقب قراره بنقل سفارة بلاده إلي القدس.

5-نتاجه الفكريّ: أخرج فضيلة الإمام خمس وثائق فكرية رائعة لم ينتجها الأزهر من قبل، كانت نتاجاً لمؤتمرات جمعت أقوي النخب الفكرية، وهذه الوثائق لو طبقت في مصر والعالم العربي لكفتها.

6-جعل الأزهر مستقلاً: إذ أيد فضيلة الإمام أن يكون شيخ الأزهر بالانتخاب من هيئة كبار العلماء، وليس بالتعيين من رئيس الجمهورية؛ فهو يدور في فلك الدين والوطن، ولا يدور في فلك أحد.

    وغير ذلك الكثير الذي لا يسعنا أن نذكره في هذه الدراسة الموجزة، فالباث شخصية عظيمة مرموقة، لها حضور عالميّ؛ فتأثيرها أقوى وأبين، بما يتناسب مع الموقف الحجاجي المطروح.

    وأقول فيه والحق أقول-عبر مقابلته والحوار معه-: هو أرفع الناس قدرًا، وأفضلهم سلفًا، وأغزرهم علمًا، وأعظمهم حلمًا…

 – المرسَل إليه:

      الطرف الثاني الذي وجه إليه فضيلة الإمام خطابه، ودفعه إلى اختيار موضوعات برنامجه الرمضانيّ: المسلم، وغير المسلم، فهو خطاب عالميّ خاطب به الإمام الأكبر البشريّة كافة؛ ليبرز وسطية الدين الإسلاميّ، وتسامحه فيقول فضيلته في الحلقة الأولى من البرنامج

فغرضنا من هذه الحلقة وما بعدها من حلقاتٍ أمران: الأوَّل- أنْ يزدادَ المسلمُ … والأمر الثاني- أنْ يقتنعَ غيرُ المسلمِ …”ولا يقل دور المستقبِل في هذا الخطاب عن دور الباث؛ إذ إنّ العملية التواصليّة لابد فيها من مرسِل ومستقبل، فــ “المتحدث والمتلقي يقومان بوظائف مختلفة ينبغي عليهما إكمالها لكي يكون فعل الكلام ممكنًا” (فان داك،2000، 111). الموقف موقف حِجَاج وإقناع؛ للدفاع عن الحق بالكلمة، وتغيير معتقد غير المسلم الذي نظر إلى الإسلام كما يصوِّرُه أعداؤه: دينَ دماءٍ وحروبٍ وتضييقٍ على مُعتنقِيه ويرسم صورة حقيقة للدين الإسلاميّ؛ إذ إنّه دينُ سَلامٍ وتعاونٍ وتسامُحٍ ورحمةٍ مُتبادَلةٍ بينَ النَّاسِ…

     – أما زمان البرنامج ففي شهر رمضان من العام 1442هـ، شهر الرحمات، يأتي ومعه الخيرات؛ فبدايته رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النيران. فالزمان مختار بعناية؛ إذ تتلقى فيه العقول والأفئدة نور الحق، فهو موسم للطاعة، وكان يدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: “اللهم بلغنا رمضان”.

   في هذا العام الذي عانينا فيه -وما نزال نعاني- من وباء كورونا، وبرزت سماحة الدين الإسلامي عبر التنويه بحكمة الإجراءات الاحترازية التي تقتضيها الضرورة الشرعية الداعية إلى بذل الأسباب كافة حفاظًا على الأرواح، قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)، وقال تعالى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، ووجوب دفع الضرر قبل وقوعه، قال صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار).

    في ذلك الوقت -أيضًا- عانى الإسلام من تشويه صورته؛ بسبب الإرهاب الداعشيّ – منذ أن ظهر في 29 يونيو/حزيران 2014؛ إذ أعلن المتحدث باسم ما يسمّى بتنظيم الدولة أبو محمد العدناني في تسجيل صوتي عن قيام هذا التنظيم المارق. بالإضافة إلى ما عاناه ويعانيه الإسلام والمسلمون من جماعات الإرهاب والتطرف، وكل ما يطلق عليه أحزاب أو جماعات الإسلام السياسيّ -خوارج هذا العصر- فكان من الطبعي أن يتصدى الأزهر -وهو المؤسسة الإسلاميّة الأعرق في العالم- لكل هؤلاء المارقين، أعداء الوطن والدين على الأصعدة كافة، بقيادة الإمام الأكبر.

  – أما مكان البرنامج ففي عدة قنوات تلفزيونيّة، وإذاعات ومواقع إلكترونية في مصر وفي العالم العربي والإسلامي، والصفحة الرسمية لفضيلة الإمام على موقعي (فيسبوك وتويتر)، وقناة فضيلته الرسمية على اليوتيوب، والصفحات الرسمية للأزهر ‏الشريف على مواقع التواصل الاجتماعي. (وأكثرها أماكن افتراضيّة على الشبكة العنكبوتيّة) تكسب حلقات البرنامج ميزة سرعة الانتشار، والاتساع، والديمومة.

    فالزمان والمكان يتماهان وموضوع البرنامج، وجاءت الحلقات للرد على الدعوات الباطلة التي حاولت تشويه الدين الإسلاميّ؛ فأبرزت الحلقات وسطية الإسلام وتسامحه، ودعت إلى التجديد عبر أسس منطقية.

     بناء على ما سبق يمكننا القول: إنّ السياق المؤطر لحلقات البرنامج الرمضانيّ لفضيلة الإمام الطيب (المرسِل، والمرسَل إليه، والعلاقة بينهما، والأفعال المصاحبة، والزمان، والمكان…) جاء مشحونًا من ناحية الإقناع؛ من ثَمَّ بدا الحِجَاج في أعلى صوره في حلقات البرنامج.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu