حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

وحدة البيت… في ميزان لسانيات النصِّ. بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب

كان ممَّا سجَّلته اللسانيَّات النصّيَّة – أيضًا- من مآخذَ على البلاغة العربية حرصُ الشعراء أن تكون أبيات قصائدهم أشبهَ بالحكم والأمثال؛ سعيًا إلى الذيوع والانتشار، وقد حكى الحاتمي أشياء تعجَّب منها ابن رشيق حين زعم الحاتمي”أنَّ حمادًا الراوية سُئل: بأيِّ شيٍء فُضِّلَ النابغةُ؟ فقال: إنَّ النابغة إن تمثلتَ ببيت من شعره اكتفيت به، مثل قوله:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة … وليس وراء الله للمرء مذهب

بل لو تمثلتَ بنصف بيت من شعره اكتفيتَ به، وهو قوله:”ليس وراء الله للمرء مذهب”، بل لو تمثلتَ بربع بيتٍ من شعره اكتفيتَ به، وهو قوله:”أي الرجال المهذب؟”، ولا أعرفُ كيف يجعل حمادٌ هذا ربع بيت وفيه زيادة سببين وهما أربعة أحرف؟ إلا أن يريد التقريب… وقال عبد الله بن المعتز:

والعيش هر، والموت مر … مستكره، والمنى ضلال

والحرص ذل، والبخل فقد … وآفة النائل المطال

ففي البيت الأوَّل ثلاثة أمثال في أحدها احتياج، وفي البيت الثاني ثلاثة أمثال لا احتياج فيها على حذو ما أتى به ضابئ، ولم أر بيتًا فيه أربعة أمثال كل واحد منها قائم بنفسه إلا قليلاً، أنشد الأصمعي:

فالهم فضل، وطول العيش منقطع، … والرزق آتٍ، وروح الله منتظر

وقال أبو الطيب وحكم عليه الوزن أيضًا:

والمرء يأمل، والحياة شهية، … والشيب أوقر، والشبيبة أنزق

فأتى بمثلين في كل قسيم، وصنعت أنا:

كل إلى أجلٍ، والدهر ذو دول … والحرص مخيبة، والرزق مقسوم

وأقلُّ من ذلك ما كان فيه خمسة أمثال، ولا أعرف منه في حفظي إلا بيتًاواحدًا للقزاز السناط في بسط قصيدة مدح بها الأمير تميم بن المعز معد، وهو قوله:

خاطر تفد، وارتد تجد، واكرم تسد … وانقد تقد، واصغر تعد الأكبرا

وأما ما فيه ستة فإني صنعت:

خذ العفو، وأب الضيم، واجتنب الأذى … وأغض تسد، وارفق تنل، واسخ تحمد

… وهذه الأشياء في الشعر إنما هي نبذ تستحسن، ونكت تستظرف، مع القلة، وفي الندرة، فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة”([1]).

وابن رشيق هنا لا يعبر عن رأي غيره من النقاد والبلاغيين، وإنما يعبر عن رأيه، ويرى من يفعل غير ذلك مقصرًا، حيث صرح في موضع آخر:”ومن الناس من يستحسن الشعر مبنيًّا بعضه على بعض، وأنا أستحسن أن يكون كلُّ بيت قائمًا بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير، إلا في مواضعَ معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها؛ فإنَّ بناءاللفظ على اللفظ أجودُ هنالك من جهة السرد”([2]).

هكذا نظر الأدباء والبلاغيون إلى تعلُّقِ البيت بغيره، واحتياجه في تمام معناه إلى ما بعده، وهو ما عُرف لديهم بـ” التضمين”،وهو من عيوب القافية المُخلة بجودة العمل الأدبي عندهم؛ لما ينتج عنه من ترهل البيت وعدم استقلاله بمعناه، وهو ما أثار حفيظة اللسانيين النصِّيين الذين رأوا في ذلك دعوةً لتماسك البيت ووحدته دون القصيدة، وبلاغةً تسعى إلى استيفاء الأجزاء والمكونات دون المحتوى الكلي، واهتمامًا بالمعنى الجزئي على حساب المعنى الكلي، وربما لا يخفى على أحد ما وسمت به البلاغة العربية من جراء عنايتها بالبيت الواحد، من كونها بلاغة الجملة تارة، وبلاغة الشاهد والمثال تارة أخرى، وبلاغة الشكل دون المضمون ثالثةً، وأنَّها غيرُ قادرة على تحليل النص بأكمله رابعةً، وأنَّه لا توجد دراسة نصِّيَّة في التراث البلاغي بأكمله باستثناء ما قام به حازم القرطاجني…وغير ذلك مما سأستعرضه في مقالات أخرى إن شاء الله.

يتبع…

أ.د صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد

ووكيل كلية العلوم الإسلامية

البريد الإلكتروني:saleh_hahmed@hotmail.cim

https://www.youtube.com/channel/UCSUJyz_yZLfFHnc9wyFoKiQ

https://www.facebook.com/saleh.ahmedabdelwahab.5

 ================

[1]ـ العمدة في محاسن الشعر وآدابه- المؤلف: أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)- المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد-الناشر: دار الجيل-الطبعة: الخامسة، 1401 هـ – 1981 م، ص 280-286.

[2]–  العمدة ص 261، 262.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu