حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

وراء كل عظيم كلمة (8) الكلمة وأثرها في تغيير المسار العلمي ” الشافعي “.. بقلم أ.د/ رفعت علي محمد

أستاذ البلاغة والنقد وعميد كلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر

رأينا كيف كانت الكلمة تعديلاً للمسار، وتصحيحاً للوجهة، من الناحية السلوكية، وكيف نقلت أقواماً من درك المعصية والغفلة، إلى درج السمو الإيماني، والرقي الروحي.. كما حدث مع إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض.. رضي الله عنهما.

وإذا كان للكلمة هذا الأثر في تعديل السلوك، فقد كان لها الأثر نفسه في تعديل المسار العلمي، وتحديد الوجهة المعرفية، بما يتناسب وصاحبها، استعداداً عقلياً، وطموحاً نفسياً.

لقد حدث هذا مع إمام كبير من أئمة المسلمين، وصاحب مذهب من المذاهب الفقهية المعتمدة، وأول من أسس علم ” أصول الفقه ” بكتابه الرسالة “.

لقد كان ” الشافعي ” – رحمه الله – في ابتداء أمره يطلب الشعر، وأيام العرب والأدب ثم أخذ في الفقه بعد، وكان وراء ذلك كلمة موجهة انحرفت بمساره العلمي إلى ما هو أصلح له وأنسب، رجاحة عقل وطموح نفس.

إذ حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، والموطأ وهو ابن عشر، وقيل فيه لو جمعت أمة لوسعهم عقله، وتختلف الروايات في صاحب هذه الكلمة التي غيرت وجهة إمامنا الشافعي، لكنها تكاد تتفق في مضمونها وأثرها على نفس إمامنا.

ومن هذه الروايات. ما روي عنه (رضي الله عنه)، قال: خرجت أطلب النحو والأدب، فلقيني مسلم بن خالد الزنجي فقيه مكة، فقال: يا فتى من أين أنت ؟ قلت: من أهل مكة، قال: أين منزلك ؟ قلت: شِعْب بالخيف، قال: من أي قبيلة أنت ؟ قلت: من عبد مناف، قال: بخ بخ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك في هذا الفقه، فكان أحسن بك.

لقد أجمع كل من ترجم للشافعي بالتقدم في اللغة والأدب، وشهدوا له بكمال الفصاحة وتمام البلاغة حتى قال الجاحظ، كان لسانه ينظم الدر.

لقد أوتي الرجل من عذوبة المنطق، وحسن البلاغة، وفرط الذكاء، وسيلان الذهن، وكمال الفصاحة، وحضور الحجة، ما أهله أن يكون عالماً من علماء اللغة، وشاعراً من أجل شعرائها وأنبغهم.

بل إن بعض علمائنا كان يرى أن الشافعي مما يؤخذ عنه اللغة، وقد قال الأصمعي – وهو من هو رواية ودراية بالشعر ورجاله وطبقاته وتاريخه – أخذت شعر هُذَيل عن الشافعي.

لقد فتحت تلك الكلمة (أين أنت من الفقه) لصاحبنا نافذة على مستقبله العلمي، ولفتت انتباهه لشيء لم يكن يدور في خلده، وقد أصاب قائلها حينما مهد للشافعي بعلو نسبه، وشرف قومه، وطهارة بيته، ورجاحة عقله، مما لا يليق بأمثاله إلا طلب الكمال، والترقي إلى ما يقرب من دائرة المحال.

فما كان من صاحبنا إلا أن توجه للمدينة قاصداً إمامها مالك بن أنس وقرأ عليه الموطأ، فأعجبته قراءته ولازمه، ثم شق طريقه في عالم الفقه والحديث، حتى بلغ من علو المرتبة ما بلغ.

لقد أفاد الشافعي من دراسة اللغة التي قيل عنه فيها، لقد طالت مجالستنا للشافعي، فما سمعت منه لحناً قط.

يقول الذهبي: أنى يكون ذلك، وبمثله في الفصاحة يضرب المثل، كان أفصح قريش في زمانه، وكان مما يؤخذ عنه اللغة، وقد كان الشافعي يقول: علماء العربية جِنُّ الإنس يعرفون مالا يعرف غيرهم.

كما أفاد من الشعر وروايته، الذي كان يحفظ منه الكثير، بل قد نظم كثيراً من الأشعار، جمعت له في ديوان، وهو القائل:

ولولا الشعر بالعلماء يزرى \ لكنت اليوم أشعر من لبيد

لقد طلب الشافعي اللغة ليستعين بها على الفقه، فكتب الفقه بلغة عالية قلما تجدها عند أحد من الفقهاء، وكتابه (الرسالة) من الكتب المؤسسة ليس في مجال الفقه وأصوله وحسب، بل في مجال اللغة والإبانة، وصحة المنهج، واشتمال الأدوات، فهو من الكتب التي تمد قارئها بمدد من العلم والمنهج والروح والعقل.

لام إنسان أحمد بن حنبل في حضور مجلس الشافعي – على حداثة سنه – وتركه مجلس سفيان بن عيينة – على جلالة قدره – فقال له أحمد: اسكت، فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول، ولا يضرك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألا تجده.

وقد كان الشافعي كذلك، لقد فتح له – لنبوغه في العربية، وتمرسه بها – أبواباً لم يتسنَّ فتحها لسواه، فكان (رضي الله عنه) علامة بارزة في تراثنا المشرق الزاهي.

لقد كانت كلمة شيخه لمحاً خفياً لقدراته الذهنية، وإمكاناته النفسية، فوجهته حيث يبلغ بتلك القدرات، غاية كمالها الممكن في العلم والتصنيف، لذا كان مذهبه وسطاً بين أهل الرأي وأهل الحديث، وقد وضع على أصول قوية سلسلة تميز عن غيره من المذاهب أنه بُنِى على كتب صنفها الشافعي بنفسه.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu