حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

وراء كل عظيم كلمة (9) الكلمة وأثرها في تغيير المسار العلمي ” الشيخ صالح الجعفري”.. بقلم أ.د/ رفعت علي محمد

أستاذ البلاغة والنقد وعميد كلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر

يعد الشيخ/ صالح الجعفري من أعلام الأزهر الشريف الذين تركوا بصمة في تاريخه، وصاحب مدرسة علمية تركت أثراً في كثير من تلاميذه الذين تبوأوا مناصب علمية راقية، وصاحب منهج صوفي فريد انتشر بين أتباعه ومريديه في ربوع المعمورة كافة.

لقد جمع الشيخ بين المنهج العلمي، والمسلك الصوفي في تزاوج عجيب جمع عليه الأفئدة والعقول، دون اعتراض ولا نكير، وقد كان درسه العامر بالأزهر مدرسة علمية جامعة لكل الطوائف من مختلف الفئات، إذ كان منهجه قائماً على التوسط والاعتدال، وعلى التوحيد والتجميع لا على التفرق والتشرذم.. ونتاجه العلمي والشعري حافل بهذا المعنى.

وقد هوتف – رحمه الله – بكلمة، كانت سبباً في تغيير مساره وتعديل وجهته، وتوافقت هذه الكلمة مع كثير من الأحداث والمواقف في حياته، لتكتمل للناشئ أدوات العلم، ومقومات النبوغ.

وهذه الكلمة منهاج حتمي لكل طالب علم يريد أن ينأى بنفسه عن الشطط والزيغ في المنهج لاسيما في العلوم الشرعية.

لقد لخص الشيخ لتلميذه هذا المنهج الضابط في كلمة صادقة: العلم يؤخذ من صدور الرجال لا من الكتب.

كان الشيخ/ صالح، محباً للعلم، شغوفاً به، مداوماً على القراءة والاطلاع منذ نعومة أظفاره، لقد كان يتوارى  من عمه في الدكان ليحفظ القرآن، وكان يعطي الفقراء مما في الدكان دون مقابل ولما سأل والده شيخه (السيد/ محمد الشريف) عن هذه الحال، قال له: أنسيت أنك قد وهبته لله تعالى ؟ أرسل ولدك إلى الأزهر.

وقف الشيخ/ صالح على كتاب (شرح النووي على صحيح مسلم) فأخذ يقرأ فيه بشوق ولهفة، وعند ذلك جاء من يصحح له المنهج، ويعدل له الوجهة التي ستجعله من أعلام الأمة الإسلامية، ومن شموس الأزهر الشريف الذين لا تخطئهم العين عند سرد سيرته، والإشارة إلى أعلامه.

لقد جاءته إشارة من الشيخ عبد العالي بن السيد أحمد بن إدريس، الذي ينتمي الشيخ إلى مدرسته الصوفية، ويرتبط به روحياً، كان سبباً في عزمه على السفر من السودان إلى الأزهر الشريف.

يحكى الشيخ تلك الواقعة فيقول: قبل مجيء إلى الأزهر جاء أحد أهل البلد بأول جزء من شرح النووي على صحيح مسلم، فاستعرته منه، وصرت أذاكر فيه، فرأيت سيدي عبد العال الإدريسي جالساً على كرسي وبجواره زاد للسفر، وسمعت من يقول: إن السيد يريد السفر إلى مصر إلى الأزهر، فجئت وسلمت عليه، وقبلت يده، فقال لي في حِدّة: العلم يؤخذ من صدور الرجال لا من الكتب، وكررها، فاستيقظت من منامي، وقد ألهمني ربي السفر إلى الأزهر.

كانت هذه الكلمة التي تمثل منهجاً صارماً في طلب العلم سبباً في هجرة الشيخ إلى كعبة العلم، ومحط رجال العلماء، الذين يؤخذ العلم من صدورهم… الأزهر الشريف.

لقد فهم الشيخ الإشارة بما رزق من ذكاء وفطنة، وبما وهب من صفاء وإمداد.

لقد وعى الشيخ من هذه الكلمة عدم كفاية المطالعة بديلاً عن التلقي، بل لابد من مشافهة الأشياخ، والتحلق في مجالسهم، فلا بديل عن الهجرة إلى الأزهر، لما فيه من العلوم والمعارف التي يعز وجودها في أي مكان غيره.

وقد حكى الشيخ في أحد كتبه أنه رأى السيد أحمد بن إدريس وهو يقول له: الله معك، اقرأ فقه المذاهب الأربعة، يقول الشيخ: فلما أصبحت قصصت الرؤيا على شيخ لي، فقال: إن صحت رؤيتك فتأويلها أنك ستذهب إلى الجامع الأزهر (حيث يدرس الفقه على المذاهب الأربعة).

ومن التوافق العجيب بين ما رآه الشيخ في منامه وكان سبباً في هجرته من بلده للأزهر، وبين الأحداث التي عايشها الشيخ مبدأ وصوله لمصر، أن كان أول درس تلقاه في الأزهر الشريف على يد المحدث الكبير الشيخ/ محمد إبراهيم السمالوطي، هو ما كان يقرؤه الشيخ قبل سفره مباشرة لقد كان الشيخ السمالوطي يدرس شرح النووي على صحيح مسلم، وكان أول ما سمع منه الشيخ/ صالح حديث: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإن استنفرتم فانفروا). وهو من التوافق العجيب بين اليقظة والمنام، مما يدل على أن ليس دون الأرواح الصافية حجب ولا أستار، بل هي موصولة بمدد من الله وفيضه.

وقد صح العزم من الشيخ بعد ذلك على السفر إلى الأزهر، وبدأ رحلته الشاقة وفي طريق وعر، كان يسمى (وقتها) طريق الموت، لكن لا مناص ممن دعي للنفير إلا أن يلبي، وإلا عُدَّ من المتثاقلين بتعبير القرآن الكريم، وحاشا لأصحاب الهمم العالية، والأرواح الراقية أن يكونوا من هذا الصنف الذي رضى بالحياة الدنيا من الآخرة.

ألم يعدّ القرآن الكريم الهجرة لطلب العلم نفيراً كالجهاد في سبيل الله، { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم }.

لذا استعذب الشيخ تلك الرحلة الشاقة التي وصفها في بردته التي عارض فيها البوصيري بقوله:

سريت من بلد أسعى إلى بلد   حتى أتيت إليهم في ديارهم
وبت في جبل من بعده جبل   أرجوا الإله شهوداً في جمالهم

والشيخ يتحدث في البردة وفي تلك الأبيات عن أحبابه من أهل البيت (t).

وقد كان الشيخ ممن يرى ترابطاً شديداً بين الأزهر، وبين أهل البيت، لقد حبا الله مصر بأن احتضنت كعبة العلم، وملتقى العلماء، وفيض العلوم والمعارف.

كما حباها بأن أحسنت استقبال أهل البيت، وأكرمت وفادتهم في وقت تخلى عنهم، بل عاداهم كثير من البلدان…

لذا كان يرى الأزهر بركة من بركاتهم، وشعاعاً من شمسهم، ومدداً من فيضهم.

ثم إن المنهج الأزهري قائم على عقيدة المحبة لهم، من غير إفراط ولا تفريط ودون غلو ولا إجحاف، وذاك واضح بالرجوع إلى تراث الشيخ شعراً ونثراً.

وقد وضحت هذه العلاقة الأبدية في قول الشيخ:

فيا زهراء أزهركم منير   ومن بركات والدكم تشعب
وعم المسلمين سنا ضياه   فكل المسلمين إليه تطلب
سألت الله يكلؤه بنصر   ومن يبغي له الإذلال ينكب

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu