مما استعمله العوام في ضد معناه الفصيح [6] كلمة جَـــــدَع .. بقلم أ.د/ هاشم عبد الرحيم
أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر
إبدال الذال دالًا (جَـــــدَع)
المعنى الفصيح:
“الجَدْعُ: القَطْعُ”([1]) ويتفرع عن هذا المعنى دلالات كثيرة، حسية ومعنوية، منها “”الجَدْعُ: قطعُ الأنفِ، وقطعُ الأذنِ أيضاً، وقطع اليدِ والشفةِ. تقول منه: جَدَعْتُهُ، فهو أَجْدَعُ بيِّن الجَدَعِ، والأنثى جَدْعاءُ”([2]) “ومنه: جَدَعَ اللهُ مسامعَه. ومعناه: قَطَعَ الأذنين”([3]) وَفِي الدّعاء على الْإِنْسَان يقولون: جَدْعاً لَهُ وعَقْراً.([4]) “وجَدَاع: السنة الشديدة التي تَجْدَعُ بالمال، أي: تذهب به”([5]) “والأَجْدَعُ: الشَّيْطانُ”([6])
والجَدْعُ -أيضًا-: الحَبْسُ، والسَّجْنُ.([7]) “ويقال: جَدَعْتُهُ، أي: سَجَنْتُهُ”([8]) ومن هذا المعنى قولهم: جَدَعَ الرجلُ عِيالَه، إِذا حَبس عنهم الْخَيْرَ … وَهُوَ حَبْسُ مَنْ تَحْبِسه على سُوءِ ولائه، وَعَلَى الإِذالة([9]) مِنْكَ لَهُ.([10])
ومن الجَدْع المعنوي: المُجادعةُ: أي: المُخاصمةُ. وجادَعَه مُجادَعة وجِداعاً: شاتَمَه وشارَّه، كأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَدَع أَنف صَاحِبِهِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْياني:
أَقارعُ عَوْفٍ، لَا أُحاوِلُ غيرَها | وُجُوهُ قُرودٍ، تَبْتَغِي مَنْ تُجادِعُ([11]) |
وَكَذَلِكَ التّجادُع. وَيُقَالُ: اجْدَعْهم بالأَمر حَتَّى يَذِلُّوا … وَحُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ: عَامَ تَجَدَّعُ أَفاعِيه، وتجادَعُ، أَي: يأْكل بَعْضُهَا بَعْضًا لِشَدَّتِهِ. وَكَذَلِكَ: تَرَكْتُ الْبِلَادَ تَجَدَّعُ وتَجادَعُ أَفاعيها، أَي: يأْكل بَعْضُهَا بَعْضًا. قَالَ: وَلَيْسَ هُنَاكَ أَكْلٌ، وَلَكِنْ يُرِيدُ: تقَطَّعُ.([12])
المعنى العامي:
إذا أرخيتَ سمعَك إلى ألسنة العامة ألفيتهم أحيانًا يمتدحون بقولهم: فلان جَدَع قوي وهيعجبك. يريدون: فلان وَدود، وَصول بالناس، حريص على مودتهم؛ ولذا يسعى في حاجة أخيه، فيَكسب المعدوم، ويعطي المحروم، ويدفع العَوَز…
ويظهر هذا جليًّا حين يقصدك أحد ذويك لحاجة تعسرت في مصلحة ما، فتحيله إلى ذاك الــ”جَدَع”، قائلًا له: فلان يقضيها لك، أَخْبِرْهُ أنك مرسل إليه من قِبَلي. فيسألك -متثبتًا-: متأكد؟ فتجيبه -واثقًا-: نعم، هو جَدَع قوي. وتقصد أنه لشدة حبه لك، لا يرد لك سُؤْلًا، فهو في إنجاز الحوائج سبَّاقٌ.
استنتاج وتعليق:
ثبت من هذه الكلمات المرصوفات أن المعنى الفصيح الذي تجتمع عليه مادة (ج د ع) -وإليه تُرَدُّ جميع تصاريفها- هو القطع، ومنه المجادعة، وهي المخاصمة والمنازعة والمُشارَّة، فالمجادِع: لم يُبقِ له في قلوب الناس وُدًّا؛ لأنه يألف الشقاق وسوءَ الأخلاق.
أما عند العامة فالــ”جَدَع” من الموطَّئين أكنافًا الذين يَألفون ويؤلفون؛ وعليه فالمعنيان متضادان.
ويرجح ههنا أن سبب الانحراف الدلالي إبدال الذال دالًا في “جَذَعٍ”؛ فصارت “جَدَعًا”؛ والــ”جَذَعُ: الشَّابُّ الحَدَثُ. ومِنْهُ قَوْلُ وَرَقَةَ بنِ نَوْفَلٍ:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ([13])
أَيْ: لَيْتَني أَكُونُ شَابًا حينَ تَظْهَر نُبوَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَته.([14])
ثم تطورت الكلمة من الدلالة الحسية -قوة البدن- إلى الدلالة المعنوية الكامنة في قوة النفس بصبرها على مسائل الطالبين، وحاجة الراغبين المعوزين، وهنا وقع التضاد بينهما.
وإبدال الذال دالًا عادة لغوية درج عليها العوام في مصر، فيقولون -في “الذئب”-: دِيب، مع قلب الهمزة ياء، ويقولون: دَاب، في: ذاب. والذي يَسَّرَ هذا الإبدال وسهله قربُ مخرجي الدال والذال، فالدال تخرج من بين طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، والذال تخرج مما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا([15]).
=====================
([1]) المحكم والمحيط الأعظم 1/305 (ع ج د)، واللسان 8/41 (ج د ع).
([2]) الصحاح 3/1193 (ج د ع)، وينظر: العين 1/219 (ج د ع)، والمصباح المنير 1/93 (ج د ع).
([3]) الإبانة في اللغة العربية، لسَلَمة بن مُسْلِم العَوْتبي 2/21 (ع ج د).
([4]) المحكم والمحيط الأعظم 1/305 ، 306 (ع ج د)، بتصرف.
([5]) الصحاح 3/1193 (ج د ع)، وينظر: والعين 1/219 (ج د ع)، ومقاييس اللغة 1/432 (ج د ع).
([6]) القاموس المحيط ص708 (ج د ع).
([7]) القاموس المحيط ص708 (ج د ع)، بتصرف.
([8]) معجم ديوان الأدب 2/207، وينظر: كتاب الأفعال، لابن القَطَّاع 1/150 (ج د ع).
([9]) الإذالةُ: الإهانةُ. ينظر: الصحاح 4/1704 (ذ ي ل).
([10]) اللسان 8/43 (ج د ع)، بتصرف، وينظر: تاج العروس 20/413 (ج د ع).
([11]) البيت من الطويل، وهو للنابغة الذبياني، في: ديوانه ص50 .
([12]) اللسان 8/42 (ج د ع)، بتصرف، وينظر: الصحاح 3/1193 (ج د ع).
([13]) الشطر من مجزوء الرجز، وهو لدريد بن الصِّمة، في ديوانه ص128.