حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

تذوق “عبد القاهر” الفني في كتابه “دلائل الإعجاز” [الحلقة الثانية] د. محمد عرفة

الأستاذ المساعد بجامعة الجوف بالمملكة العربية السعودية

التمهيد

       التذوق الفني مصطلح ومنهج نقدي، عجت به كتب الأدب والنقد والبلاغة، وقامت به، وعليه كثير من الدراسات والمصنفات، التي استعانت به في سبر أغوار العمل الأدبي والتدسس إلى مواطن المزية فيه لتذوقها وتتذوَّقها، كذلك استعانت عليه بعلوم أخرى للوقوف على مسالكه ودروبه، وبخاصة علم النفس الذي توافرت بعض كتبه، وفصول من كتب أخرى، على تناول هذه القضية.

       وقضية الذوق أو التذوق قضية قديمة قدم الأدب وقدم الفن، مثلها مثل، النقد الأدبي، بل إن البعض عدّها المرحلة السابقة، أو الخطوة الأولى للنقد الأدبي.

        لكن ذلك المصطلح اعتراه – كما اعترى غيره من بعض المصطلحات الأدبية والنقدية-([1])آفة عدم الدقة والوضوح في مدلوله، والخلط بين مدلولاتِ دوال متقاربة في ذات السياق، إذ ليس بغريب أن يعنون بـ (الذوق) ويدور الأمر حول “التذوق” أو العكس.([2])

        ولعل الشيخ محمود شاكر- رحمه الله – قد حذر من هذا الخلط بين المصطلحين في رده على مقالة الدكتور عبد العزيز الدسوقي الذي استعمل لفظتى، التذوق الفني تارة والتذوق الجمالي تارة أخرى، مما لفت انتباه الأستاذ شاكر، فقال:”والبلوى، أن لفظ التذوق الفني والجمالي عندك ناشب نشوبًا غريبًا في جميع أسطر المقال، وفي جميع الأراء التي تضمنتها، وفي جميع الأحكام التي أصدرتها عليّ! والبلوى أيضًا أن لفظ التذوق عندي أنا، ناشب هو الآخر نشوبًا غريبًا في مقدمة كتابي (المتنبى) وفي كثير مما كتبت من زمان طويل، والفرق بين لفظي ولفظك أن لفظي هو دائمًا عندي عار من كل زينة، التذوق لا غير. ولفظك عندك هو دائمًا في أتم زينة، التذوق الفني والجمالي. وأنا أخشى أن أقترب من لفظك في زينته؛ لأني إن فعلت ذلك سقطت فجأة في جوف المنطقة الملتهبة، منطقة الجدل والصراع العقلي!… ولا بأس عليّ أو عليك إن شاء الله، ولكن البأس يحتدم احتدامًا، حين تعد معنى اللفظ العاري، وهو التذوق عندي، مطابقا تمام المطابقة لمعنى اللفظ المتأنق عندك، وهو التذوق الفني والجمالي”.([3]) ومن ثم، فليس التذوق هو التذوق الفني، كما ذهب الأستاذ محمود شاكر.

      لكن كذلك ليس التذوق هو الذوق، كما يذهب هو نفسه، حيث يشير في موضع آخر في أثناء تعريفة للتذوق بقوله :” والذي يقال في (ذاق الشىء ذوقًا) يقال مثلة في (تذوقت الطعام أو الشراب تذوقًا) ولا فرق، إلا أن هذه الصيغة الأخيرة تدل على تكرار عمل اللسان مرة بعد مرة، في طلب تعرف طعم المأكـــول           أو المشروب لا غير. هذه حقيقة معنى (الذوق والتذوق) في أصل اللسان العربي”.([4])وينقل هذه المطابقة بين معنى اللفظين وهما في الحقيقة إلى معناهما المجازي حين يستخدمان في مجال الأدب والفنون فيؤكد “أن الذي قلته في لفظ (الذوق) عندما نقل من مدارج الحقيقة إلى معارج المجاز، يصدق كل الصدق على لفظ (التذوق) لأنه فرع عنه، جاء للدلالة على تكرار عمل اللسان مرة بعد مرة”،([5]) وأذهب مع الشيخ شاكر في اختلاف مصطلح التذوق (عاريا) عن التذوق الفني أو الجمالي (الذي هو في أتم زينته)، لكن لا أوافقه في أن الذوق هو التذوق (مع تكرار عمل اللسان مرة بعد مرة)؛ فإذا كان الصبر ليس التصبر، فكذلك لا يكون الذوق بمعنى التذوق. حتى إن ارتضينا أن يكون التذوق- معجميا- تكرار الذوق مرة بعد مرة، فلا يعنى هذا أن يكونا حين توظيفهما- مصطلحيين نقديين- بنفس المعنى مكررًا مرة بعد مرة.

        فالذوق- في أوجز معانيه- هو ذلك التهيؤ الطبيعى المكتسب الذي يمكِّن صاحبه من التفاعل مع القيم الجمالية في الأثر الفني..وهو مزيج من العاطفة والحس والعقل، والعاطفة أهم عناصره”.([6])

        ولعل هذا (التهيؤ الطبيعي المكتسب) هو مكتسب بالفطرة والطبع والموهبة، وهو ما عناه القدماء حين قالوا :”من صح طبعه وذوقه، لم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به”([7]) فالذوق هو الطبع والسليقة التي لا يحتاج معها صاحبها إلى الاستعانه على نظم الشعر بالعروض. إلا إذا اضطربت عليه هذه السليقة، فإنه يعيد تقويمها بعلم العروض.

        ونفس المعنى ساقة عبد القاهر الجرجاني حين جعل الذوق مع المعرفة أداتي الاستمتاع والإعجاب بالفنون البلاغية،”واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولاً، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة”.([8]) فالذوق هو الفطرة والطبع والسليقة والموهبة.

===============================

(1) من تلك المصطلحات التى تتداخل مدلولاتها مع تغاير دوالها، مصطلح الصورة والتصوير والخيال والصورة الفنية والصورة الخيالية والصورة الشعرية والصورة الأدبية والصورة البلاغية والصورة الجمالية والصورة البيانية، والصورة .. .

(2) من ذلك دراسة الدكتورة نجاح الظهار “الشواهد الشعرية في كتاب دلائل الإعجاز”، حيث عنونت للفصل الثالث بـ ” قضية الذوق” لكن حديثها دار حول الذوق والتذوق دون توضيح فرق بينهما، بل نفى شيخنا الأستاذ محمود شاكر – رحمه الله – وجود فرق بين الذوق والتذوق.

– ينظر “قضية الذوق”، من رسالة الدكتوره نجاح الظهار” الشواهد الشعرية في كتاب دلائل الإعجاز”، رسالة دكتوراه مخطوطة بجامعة أم القرى، 1408/1988، ص1320-1344.

(1) جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، جمعها وعلق عليها : د.عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، سنة 2003،ج2، ص1122. وأصلها مقال نشر بمجلة الثقافة، السنة السادسة العدد الحادى والستون، أكتوبر سنة 1978،ص4- 18.

(2) جمهرة مقالات شاكر ،2/1134.

(3) جمهرة مقالات شاكر، 2/1135. هذا المعنى”مرة بعد مرة”هو المعنى الموجود بالقاموس المحيط لكلمة “تذوق” في مادة “ذوق”، وفي اللسان “تذوقته”: أى ذقته شيئًا بعد شىء، أما أساس البلاغة، فاقترب إلى المعنى الاصطلاحي حين أشار إلى أن: حَسَنَ الذوق للشعر:إذا كان مطبوعاً عليه. يرجع للمعاجم السابقة في مادة (ذوق).      

(4) محمد الإبراشي وحامد عبد القادر: في علم النفس، ط3، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، سنة 1952، 3/362 ، 363.

(5) ابن طباطبا، عيار الشعر، تحقيق : محمد زغلول سلام، طبعة منشأة المعارف،سنة 1985، ص41.

(6) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق : محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بمصر،ط3 سنة 1413/ 1992، ص291. 

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu