حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

فاعلية الصوت اللغوي في صنع المعنى الشعري.. دراسة أسلوبية [الحلقة الرابعة] بقلم أ.د/ محمد عيد محمد عبد الله

أستاذ أصول اللغة بكلية اللغة العربية بالمنوفية- جامعة الأزهر

أنماط التكرار النسقي :

تكرار حرف الروي :

يعد الروي مركز الأصوات في الوحدات الإيقاعية للقافية، ويعد زهير أحد الشعراء الذين يولعون بتكرار حروفها، ويأتي التكرار –غالباً- في شعره على نمط معين وهو : حروف من جنس حرف الروى وهي تتكرر في كل بيت على حدة، ولا تختلف من بيت إلى آخر، وهي في هذه الحالة تقوم على أساس المزاوجة بين تآلف الحروف وتخالفها، فهي تتآلف مع بعضها البعض في البيت الشعري الواحد، ولكنها تختلف في كل بيت على حدة، كما قد يحدث العكس(1).

ومن النماذج الشعرية لزهير : معلقته التي يعد حرف الميم مفتاحاً للدلالة فيها وهو حرف يطرد ذكره في أكثر أبيات المعلقة ليوائم رويها.

أ-حرف الميم كقوله :

ودار لها بالــرقمــتين كأنهـا مراجـع وشم في نواشر معصم
بها العين والآرام بمشين خلفـــه وأطلاؤها ينهضن من كل مَجْثم
أثافيَّ سفعا في معــرس مرجـل ونؤيا كجــذم الحوض لم يتثلم(29)
وورَّكن في السُّوبان يعلـون متنـه عليهن دلُّ الناعــم المتــــــــــــــــــــــنعــم(30)
جعلن القنان عن يمـين وحزنــه وكم بالقنان من مُحل ومحــرم(31)
لـدى أسد شاكــي السلام مقاذف لـه لـبــــــــــــــــد أظفــاره لــم تقــــــــــــــلم(32)
ولا شاركوا في الحرب في دم نوفل ولا وهب منهم ولا ابن المحـزّم(33)

ب- وحرف اللام مفتاح قصيدته التي مطلعها :

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل(34)

ج- والهمزة مفتاح قصيدته التي مطلعها :

عفـا مــن آل فاطمـة الجـــواءُ فيُمْــنُ فالقَــوادِم فالحـسـاء(35)

د-وحرف النون في قصيدته التي مطلعها :

ألا أبلــغْ لديك بني تميــمٍ  وقد يأتيــك بالخـبر الظنونُ(36)

         فالمواءمة بين هذه الأصوات المكررة وروي القصيدة خاصّية يتميز بها شعر زهير.

        وقد كان يطلق على الأعشى بأنه “صناجة العرب” لما يعرف به من الاهتمام بالموسيقى عن طريق الإيقاع الصوتي، إذ كان يؤثر القوافي المطلقة فضلاً عن إيثاره لأصوات اللين التي تتكرر في أبياته بشكل لافت، وقد انصرف الأعشى إلى الاهتمام بصوت معين من أصوات اللين هو صوت “الألف” أو ما يطلق عليه “الفتحة الطويلة” كما في القصيدة التالية :

أجدَّك لم تغتمض ليلــة فَتَرقُدهـا مــع رُقَّادِها
وأبيض مختلــط بالكرا م لا يتغطــي لإنفـادِها
أتاني يؤامرني في الشمو ل ليلاً فقلت لـه : غادِها(37).

فمطله للحركات في “ألف المد” أطول أصوات اللين باقترانها بالقافية من شأنها أن يحدث موسيقى بطيئة تسهل على المتلقي التفاعل مع معانيها بتأمل وتؤدة.

التكرار الخلفي النمطي (لزوم مالا يلزم) :

        بنى أبو العلاء المعري قوافي لزومياته على جل حروف المعجم العربي مستهدفاً من ذلك توظيف القيم الدلالية التي ترمز لها الأصوات في سياقها، ولم يكتف بهذا بل التزم قبل الروى بتكرار أصوات ليست بلا زمة، ولكنه اختارها بطواعية دون أن يكون ثمة إعنات أو مشقة، وأبو العلاء مسبوق بهذا الصنيع وإن كان هو أميره بلا شك على مدى ديوان كامل بلغ عدد أبياته أحد عشر ألف بيت من الشعر، وإن كان هذا يدل على تمكنه بمهارة إلا أنه قد قصد بذلك تكريس نوع من المعنى يربط بينه وبين العالم كما يربط بينه وبين الإنسان، وقد كانت أذنه هي الوسيلة لهذا التفاهم.

وقد التزم تكرار الصوت الواحد قبل الروى كما في البيتين التاليين :

أَخَّبتْ ركابي أم أتيح لها خْبتُ عميم رياضٍ ما يــزال بـه نَبْتُ
وكفـرها ميـل ترهب شهبه تخال يهودا عاق عن سيرها السبتُ(38).

     ففي النبت والسبت التزم الشعر الباء مع التاء المضمومة وهكذا إلى آخر القصيدة.

     كما التزم تكرار التاء والألف قبل الباء الساكنة في :

من جالس المغتاب فهو مغتابْ      لست على كُلِّ جنيٍّ بِعتَّابْ(39).

وهكذا يصنع حتى يلتزم تكرار أربعة أصوات قبل الروى كما في القصيدة التي مطلعها :

        استنبط العُرْبُ لفظاً وانبرى نَبَطُ

                                يخاطبونـك مـن أفـواهِ أعرابِ(40).

        فالشاعر قد التزم الهمزة والعين والراء والألف قبل الباء المكسورة

التكرار الاستهلالي الأمامي :

        من هذه النماذج الممثلة قصيدة المهلهل المشهورة في رثائه لأخيه، يقول في المقطع الذي يوحي النسق التركيبي فيه بالإحساس الذي يتولد من الطقس الجنائزي :

على أن ليس عدلا من كليب إذا طرد اليتيم عـن الجزور
على أن ليس عدلا من كليب إذا رَجَف العِضَاه من الدَّبور
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما ضيم جـيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبــأة الجذور
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما أعلنت نجـوى الأمور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب غداة تلاتل الأمــر الكسير
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما حــام جأر المستجير(41).

        ومن النماذج الممثلة لهذا النسق أيضاً قصيدة الحارث بن عباد البكري إذ يكرر التركيبة “تربا مربط النعامة مني” في صدر الأبيات أربعة عشرة مرة، وفي (آمالي المرتضى)(42). قصيدة لابنة عم النعمان بن بشير ترثي فيها زوجها تقول :

وحدثني أصحابه أن مالكا أقام وبــادى صحبــه برحيل
وحدثني أصحابه أن مالكا ضروب بنصل السيف غير نكول
……………….. الخ.

التكرار الترصيعي :

        وهذا النسق يعد عند قدامة بن جعفر من نعوت الوزن الشعري وهو أن يتوخى فيه تصيير مقاطع الأجزاء في البيت على سجع أو شبيه به أو من جنس واحد في التصريف(35)، وعد من أشهر نماذجه قول أبي صخر الهذلي:

وتـلك هيكلـة خود مبتلة صفراء رعبلة في منصب سنــم
عذبُ مُقبَّلهُا جَذْلٌ مُخَلْخَلهُا كالدعص أسفلها مخصورة القَــدَمِ
سُودٌ ذوائبها بيضٌ ترائبها محض ضرائبها صيغت على الكرم
عبل مُقَيَّدُها حـالٍ مُقَلّدها بَضٌّ مُجَــَّردُها لَفَّــاءُ في عَمَم
دُرْقٌ مرافقها سَهْل خلائقها يروي معانقها من بارد النَّسَـمِ(43).

فالأبيات تقسم إلى وحدات موسيقية تساعد على إظهار الترديد والترجيح الصوتي في تكرار نسقي رتيب يوحي بحركة النموذج النفسية.

 

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu