حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

مما استعمله العوام في ضد معناه الفصيح [8] تابع الأسباب النفسية.. بقلم أ.د/ هاشم عبد الرحيم

أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر

2- العافيــة

المعنى الفصيح:

“العافية” اسْم يوضع مَوضِع الْمصدر الحقيقيّ وَهُوَ المعافاة. وَقد جَاءَت مصَادر كَثِيرَة على فاعلة. قَالَ: سَمِعت راغية الْإِبِل، وثاغية الشَّاء. أَي: سَمِعت رُغاءَها وثغاءَها.([1])

أما معناها، فالعافية: دِفاعُ الله عن العبد المَكارِهَ.([2]) “يُقَال: عافاه الله من الْمَكْرُوه يعافيه معافاة وعافية”([3]) ويُقَالُ: عافاهُ اللَّهُ وأَعْفَاه، أَي: وهَب لَهُ الْعَافِيَةَ مِنَ العِلَل والبَلايا… وأَعْفاهُ مِنَ الأَمرِ: بَرَّأَه.([4]) “وأعفاه، أَي: وهب لَهُ الْعَافِيَة من العِلَل والبلايا”. ([5])

ومنه قولهم: “عَفَا الْمَنْزِلُ يَعْفُو عَفْوًا وَعُفُوًّا وَعَفَاءً -بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ-: دَرَسَ. وَعَفَتْهُ الرِّيـحُ يُسْتَعْمـَلُ لَازِمًـا وَمُتَعَدِّيًـا. وَمِنْهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، أَيْ: مَحَا ذُنُوبَكَ. وَعَفَوْتَ عَنْ الْحَقِّ: أَسْقَطْتَهُ، كَأَنَّكَ مَحَوْتَهُ عَنْ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ. وَعَافَاهُ اللَّهُ: مَحَا عَنْهُ الْأَسْقَامَ”. ([6])

وَمِنْهُ ما رواه سيدنا أَبو بَكْرٍ الصديق -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “سَلُوا اللهَ العَفْو والعَافِيَةَ والمُعَافَاةَ”([7])، فالعَفو: مَحْوُ الذُّنوب، والعَافِيَة: أَنْ تَسْلَم مِنَ الأسْقَام والبَلاَيا، وَهِيَ الصحةُ وضِدُّ المرَض … والمُعَافَاة: هِيَ أَنْ يُعَافِيَك اللهُ مِنَ النَّاسِ ويُعَافِيَهُم مِنْكَ: أَيْ: يُغْنِيك عَنْهُمْ ويُغْنيهم عَنْكَ، ويَصْرف أذاهُم عَنْكَ وأذَاكَ عَنْهُمْ.([8])

فـ(العين والفاء والواو) تدل على ترك الشيء، وإلى هذا المعنى تُردُّ الدلالات السابقة، غير متفاوتة.([9])

المعنى العامي:

تستعمل “العافية” أحيانًا للدلالة على السَّقَم، بل على شدته، نسمع هذه الدلالة حين تفتقد خليلًا قد حُمَّ، أو جارًا اطَّرَحَهُ المرض، فتسأل عنه ذويه، فيقولون: هو بعافية. وليس المراد بالعافية ههنا المنشط والسلامة والصحة، وإنما قصدوا بها أنه عليل، وَجِعٌ، قد مسه الضرُّ. وربما عنوا بــ”العافية” هنا أشد الوعك والدَّنَف.

استنتاج وتعليق:

        يتجلى مما سلف أن “العافية” تستعمل عند العرب للسلامة من العلل والآفات والخلو من الأسقام، أما العامة -وجمع من المتخصصين- فيجرونها أحيانًا على ألسنتهم، ولا يريدون بها البرء والخلو من العلل، بل يرومون بها الإلماح إلى الاعتلال والضنى، لاسيما فيما اشتد منه وطغا. وذلك وجه التضاد بينهما.

والذي صرف وجوهَ العامة عن التصريح بالألفاظ الدالة على المرض تفاؤلهم بـكلمة “العافية”، حيث جُبلت النفوس وطُبعت الآذان على حب الفأل وحسنِ الكلام، لاسيما في شديد النوائب وعظيم الملمات التي يفقد فيها المرء عافية البدن -عافانا الله جميعًا.

ويزداد تشبثهم ويقوى تمسكهم بهذه الكلمة إذا أصيب فتاهم الحبيب الحميم بمرض مزمن مُقْعِد – رعاكم الله- تشمئز النفس ويثقل اللسان عن التصريح به.

وثَمَّ نظير يُضارع هذا التحول الدلالي ويؤزره، وذلك أن بلاد البربر (المغرب وما جاورها) يتحاشون التصريح بكلمة “نار”، ويستعملون مقابلها “العافية”، فيقولون: إذا أردت أن تؤرث غَلْيُونَك([10]) -أي: تشعله- فلا تقل: جِيب لي نار؛ لأن كلمة نار تطلق خاصة على نار جهنم، بل قل: جيب العافية. ويقولون: راني نقعد قرب العافية ونسخن: أي: اقعد قرب النار، وادفأ.([11])

        وليس إطلاق اللفظ على ضد معناه -تفاؤلًا- بِدْعًا عند العوام، بل تأثل هذا في النمط الكلامي الوارد عن أثبات العرب وأَلِبَّائهم، أمثاله: يسمون الصحراء مفازة، وهي أشد المهالك، وإنما سموها مفازة من الفوز؛ تفاؤلاً لصاحبها بالفوز والعَوْد سالمًا، كما سموا الأسْوَدَ: أبا البيضاء، تفاؤلاً له، وكما سموا اللديغ سليماً؛ تفاؤلاً له بالسلامة.([12])

===================

([1]) تهذيب اللغة 3/141 (ع ف و)، بتصرف، وينظر: الغريبين في القرآن والحديث لأبي عبيد الهروي 4/1301، ومختار الصحاح، ص213 (ع ف و)، والمصباح المنير 2/419               (ع ف و).

([2]) العين 2/258، 259 (ع ف و) بتصرف، وينظر: تهذيب اللغة 3/141 (ع ف و)، ومقاييس اللغة 4/45 (ع ف و).

([3]) تهذيب اللغة 3/141 (ع ف و)، وينظر: مختار الصحاح، ص213 (ع ف و).

([4]) اللسان 15/72، 73 (ع ف و)، بتصرف، وينظر: القاموس المحيط ص 1313                (ع ف و).

([5]) النهاية في غريب الحديث والأثر 3/265 (عفا)، بتصرف، وينظر: تهذيب اللغة 3/141 (ع ف و).

([6]) المصباح المنير 2/419 (ع ف و)، وينظر: مختار الصحاح، ص213 (ع ف و).

([7]) السنن الكبرى، للنسائي، 9/325 برقم (10651)، ومسند أبي يعلى الموصلي 1/49 .

([8]) النهاية في غريب الحديث والأثر 3/265 (عفا)، بتصرف، وينظر: تهذيب اللغة 3/141 (ع ف و)، واللسان 15/72، 73 (ع ف و).

([9]) ينظر: مقاييس اللغة 4/57 (ع ف و).

([10]) الغَلْيُون: أنبوب للتَّدخين له رأس مجوَّف يُحشى فيه التَّبغ، ويسميه أهل مصر الحَجَر (الشيشة). ينظر: تكملة المعاجم العربية، لرينهارت بيتر آن دُوزِي، 7/346 (ع ف و) بتصرف.

([11]) ينظر: تكملة المعاجم العربية، لرينهارت بيتر آن دُوزِي، 7/346 (ع ف و).

([12]) ينظر: الزاهر في معاني كلمات الناس، لأبي بكر الأنباري 1/444 .

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu