حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

المعنى في شروح المنظومات الحديثية- دراسة في بعض شروح منظومة (غرامي صحيح) [8] بقلم د. عمرو عطيفي

مدرس بقسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب - جامعة القاهرة

الشواهد والمعنى:

        ارتبطت قضية الشواهد منذ أوائل عقود العربية بمساحة مكانية وفترة زمانية لا تتعداهما، على نحو ما عرف في الدرس اللغوي والدرس البلاغي بعصر أو عصور الاحتجاج التي انتهت بانتهاء دولة بني أمية، فبأفول دولتهم دبَّ الشك في محضية فصاحة الكتاب والشعراء، نظرًا للتداخل أو الازدواج اللغوي الذي فشا وشاع وانتشر، ومن ثمَّ حجية الاقتصار على مكان أو أمكنة بعينها، لا ينضب معين فصاحتها، وعلى زمان لا يشك في بيانه ولَسَنِه، حتى غدت شواهد المنتمين إلى هذه الفترة المقصورة على تلك البقاع مع أفصح كلامين القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف سبيلًا “لتقعيد قاعدة لغوية، أو بيان مسألة لغوية، تركيبًا أو نطقًا أو اشتقاقًا”([1]).

        وقد كان الشراح على اختلاف بيئاتهم الثقافية مشاركين للغويين والنحاة والبلاغيين للأسس التي أقروها لحجية الشاهد، ما دام الأمر يتعلق بأصول اللغة، ولا أدل على ذلك من شواهد المفسرين وشراح الحديث النبوي الشريف وشراح الشعر العربي، وكذا شراح المنظومات المختلفة الموضوعات. وقد تباينت شروح منظومة ابن فرح الحديثية في موقفها من الشواهد، كما تباينت في منهجية الاستشهاد، على نحو ما تبين الفقرات التالية.

(5/1) نسبة شيوع الشواهد:

الشراح على فرق ثلاث فيما يتعلق بشيوع الشواهد داخل الشرح:

– فريق غير معنيٍّ بالشواهد.

– فريق معني بالشواهد اللغوية ليس غير.

– فريق يمزج الشواهد اللغوية بالشواهد الدالة على أشياء غير لغوية.

أما الفريق الأول فيمثله ابن قنفذ في شرف الطالب، إذ يكاد شرحه يعدم الشواهد أو الأمثلة، لولا وجود آية قرآنية وبيت شعر. فقد استشهد بالآية على لفظة (الأمر) بمعنى الشأن: “قال الله تعالى: (وما أمرُنا إلا واحدة)، أي وما شأننا”([2])، واستشهد ببيت الشعر على جواز حذف الضمير من الفعل للضرورة، وذلك في معرض شرحه لقول ابن فرح: (وغامضه إن رمت شرحًا أفصل)، يقول: “وهو [أي أفصل] محذوف الضمير لضرورة الوزن، التقدير: أفصله، ومنه قول الشاعر:

وخالد يحمد ساداتُنا …. بالحق يُحمد لا بالباطل

التقدير: وخالد يحمده ساداتنا، فحذف للضرورة”([3]).

وأما الفريق الثاني فيمثله التتائي في بهجته، وإن لم تتعد شواهده عشرين شاهدًا أو تقل، منوعة بين الأبيات الشعرية (9 أبيات)، والقرآن الكريم (8 آيات)، وأثر ومثل.

ويمثل الفريق الثالث المالكي والسفاريني، وإن تفاوتت نسبة الشواهد في كليهما، غير أن الجامع بينهما هو كثرة شواهدهما غير لغوية الطاغية على الشواهد اللغوية. صحيح لم يتركا موضعًا له ما يؤيده من الشواهد إلا ذكرا ما يدعم ويؤيد، لكنها شواهد على الأحوال والكيفيات أكثر منها شواهد على المفردات اللغوية، فالأخيرة قليلة مقارنة بغيرها.

وكانت شواهد المالكي أقل نسبة من شواهد السفاريني، وقد بدأت شواهده من مقدماته، فالمقدمة الخاصة بالتورية تقتضي الشواهد الداعمة أو المفسرة لقسميها: المجردة: “وهي ما لم تقترن بشيء يلائم القريب، نحو (الرحمن على العرش استوى)…”([4])، والمرشحة: وهي ما تقترن بشيء يلائم القريب، “نحو: (والسماء بنيناها بأيد)”([5]). والمقدمة المتعلقة بعلم العشق تلزم الشواهد المؤيدة لحقائق هذا العلم، فتطالعنا قصة ليلى الأخيلية لما أخبرها زوجها- حينما مرا على قبره- بأن المجنون كاذب، بسبب قصيدته التى يقول فيها: (ولو أن ليلى الأخيلية سلمت)، فاستأذنت في السلام عليه، فأذن لها، وإذا روحها قد فارقتها، ودفنت بجوار مجنونها([6]). ويستدل المالكي على أن النظر هو أصل الحب والبغض بقول الشاعر([7]):

كل الحوادث مبداها من النظر … ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة أثرت في قلب ناظرها … فعل السهام بلا قوس ولا وتر

يسر مقلته ما ضر مهجته …. لا مرحبا بسرور جاء بالضرر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها …. في أعين الناس موقوف على خطر

ويمضي المالكي مستدلًا بأشعار العرب على ما يذهب إليه من حسن الفعل، والعداوة الناشئة من البغض، وبعد الحبيب وجفائه، والهوى والصبابة والوله التي هي من مرادفات العشق([8]).

وتأتي شواهد الشرح تمزج بين معاني الألفاظ والمصطلحات وهي قليلة والأحوال والكيفيات وهي كثيرة، وأكثر الشواهد اللغوية متعلق بالبلاغة- باستثناء موضع نحوي([9])، وآخرين معجميين دلاليين([10])– وقد بدأت شواهد البلاغة مع مقدمة التورية وثنيت داخل الشرح في إشارات يقتضيها الشرح([11]).

أما شواهد الأحوال والكيفيات والأعراض، فقد السمة الغالبة في شرح المالكي. وقد كان البيت الأول لابن فرح أكثر الأبيات نصيبًا من الشواهد وأحظاها جمعًا بين المفردات والكيفيات، وإن كانت الغلبة للشاهد اللغوي، لكنها غلبة ليس متكررة على كل حال، يقول ابن فرح:

غرامي صحيح والرجا فيك معضل …. وحزني ودمعي مرسل ومسلسل

يقول المالكي في ثنايا شرحه: “والدمع: ما يدفعه الفؤاد بسرعة عند تأثره إلى الدماغ… ويكون عند شدتي الفرح والحزن، قال:

يا عيني صار الدمع عندك عادة …. تبكين من فرح ومن أحزان

ثم فيه [أي البيت] من المحسنات البديعية الطباق… كقوله:

على رأس عبد تاجٌ يزيِّنه … وفي رجل حر قيدُ ذلٍّ يُشينه

وهنا [أي في بيت المنظومة] الصحيح مع المعضل، بل ومع المرسل باعتبار المعنى المصطلحي، والمعضل مع المرسل والمسلسل، بل والمرسل والمسلسل؛ لأن إرسال اللالئ مثلًا يضاد سلسلتها في السلك، والرجاء والحزن؛ لأن الأول للمحبوب والثاني للمكروه. واللف والنشر المرتب؛ لأنه قوله مرسل راجع للحزن، ومسلسل راجع للدمع، فهو على حد: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فصله)…”([12]).

وإذا دققنا النظر في شواهد الأحوال والكيفيات، فإنها تأخذ في مسلكين: الأول هدفه تقريب معنى البيت، ومثاله تعليق المالكي على قول ابن فرح:

وأمري موقوف عليك وليس لي …. على أحد إلا عليك المعول

يقول المالكي([13]): “يعني أمري الذي به صلاحي ليس إلا منك، كما قال:

فليتك تحلو الحياة مريرة … وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر … وبيني وبين العالمين خراب

إذا نلت حظي منك فالكل هين … وكل الذي فوق التراب تراب

والمسلك الآخر من فضول القول وتتمات الكلام، ومن ثم يصدر المالكي في هذا المسلك شاهده بعبارة: ومن الملح، كقوله: “والقلب: يطلق على اللحمة المعروفة. وعلى اللطيفة الربانية، ومن الملح:

وما سمي الإنسان إلا لنسيه … ولا القلب إلا أنه يتقلب

والمبلبل: المصاحب للبلبال وهو الحزن، ومن الملح:

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها … فتق البلابل باحتساء بلابل”([14])

================================

([1]) عبدالعزيز سفر: شواهد التاج، ضمن كتاب: ندوة تاج العروس، المنعقدة بتاريخ (9- 10 فبراير 2002م)، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2009، ص 67- وانظر: يحيى عبدالرؤوف جبر: الشاهد اللغوي، مجلة النجاح للأبحاث، م2، ع6، 1992م، ص 265.

([2]) شرف الطالب، ص 158.

([3]) شرف الطالب، ص 184.

([4]) الشرح المليح، ص 25.

([5])  الشرح المليح، ص 26.

([6]) الشرح المليح، ص 26، ص 27.

([7]) الشرح المليح، ص 27.

([8]) الشرح المليح، ص 27، ص 28.

([9]) انظر: الشرح المليح، ص 47.

([10]) انظر: الشرح المليح، ص 60، ص 61.

([11]) انظر: الشرح المليح، ص 51، ص 55، ص 57، ص 68.

([12]) الشرح المليح، ص 32، ص 33.

([13]) الشرح المليح، ص 49. وانظر أيضًا:  الشرح المليح، ص 56، ص 66.

([14]) الشرح المليح، ص 58، وانظر مثله، ص 67.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu