حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

فاعلية الصوت اللغوي في صنع المعنى الشعري.. دراسة أسلوبية [الحلقة الثامنة] بقلم أ.د/ محمد عيد محمد عبد الله

أستاذ أصول اللغة بكلية اللغة العربية بالمنوفية- جامعة الأزهر

ثانياً – التبادل بين الأصوات الصائتة :

        ليست الأصوات الصامتة وحدها هي تؤثر في صنع المعنى المعجمي لدى الشاعر، وإنما يؤازها في ذلك الأصوات الصائتة (الحركات) فالأصوات الصائتة لها دور بارز في خلق صيغ صرفية متعددة، وتسهم إسهاماً واضحاً في إيجاد المشتقات، ولا يخفي علينا مالها من أثر في إظهار المعاني النحوية عن طريق استخدامها كعلامات إعرابية للتفريق بين المعاني النحوية كالفاعلية والمفعولية والابتدائية والحالية وغير ذلك.

        وما يعنينا هنا هو استعمال الحركات كفونيم (وحدة صوتية) له دور في التفريق بين المعاني المعجمية من خلال الشعر، وأمثلة ذلك من الشعر ما يلي : قال كثير :

        غَمْرُ الرداء إذا تبسم ضاحكاً  \  غَلِقَتْ لِضَحْكَته رقاب المال(74).

        استعمل الشاعر كلمة (غَمْر) بفتح الغين وإسكان الميم بمعنى : واسع إذ يقال للرجل “غمر الرداء إذا كان واسع المعروف سخياً”(75)، فإذا استبدلنا فتحة الغين بكسرة وقلنا (غِمْر) تغير المعنى تماماً لأن “الغِمْر : الحقد”(76)، وليس هذا ما عناه الشاعر في البيت، وكذلك إذا تحولت فتحة الغين إلى ضمة (غُمْر) تَحوّل المعنى إلى شئ آخر لأن “الغُمْر : الذي لم تحنكه التجارب”(77)، وذات الكلمة إذا حركت ميمها بالفتح مع ضم الغين (غُمَر) أعطتنا معنى جديداً، قال أعشى باهلة :

        تكفيه حزة فِلْذٍ إِنْ أَلَمَّ بها  \  من الشواء، ويَرْوىِ شُرْبه الغُمَرُ(78).

فقد عنى الشاعر بكلمة “الغُمَر : القدح الصغير”(79).

        ألا ترى معي من خلال ما سبق أن للحركات وظيفة أساسية في صنع المعنى المعجمي لدى الشاعر فالأصول الصامتة للكلمة هي (غ.م.ر) متفقة في كل الأحوال، وإنما الذي اختلف حركة الفاء من الفتح إلى الكسر إلى الضم، والعين من الإسكان إلى الفتح، وفي كل حالة ينتج لنا معنى جديداً ناجماً عن اختلاف الأصوات الصائتة (الحركات).

        وفي هذا دلالة على أن الحركات لا تقل أهمية عن الحروف حينما تُشكل المعاني لدى الشاعر، فهما يتشاركان على حَدّ سواء في هذا المجال.

        ومن أمثلة ذلك أيضاً قول الأعشى :

        ولا تقربنَّ جارةً إنَّ سِرّها  \  عليك حرام، فانكحن أو تأبَّدَا(80).

        الشاعر هنا قال : إن سِرها بكسر السين “والسِّر : النكاح، قال تعالى: (لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)[البقرة:235](81).

        والمعنى الذي ذهب إليه الشاعر: إن نكاحها عليك حرام في حين لو قال : (سَرَّها) بفتح السين لكان المعنى : إن جَوْفها عليك حرام، لأن “السَّرُّ : مصدر سَرَّ الزنْدُ يَسُرُّه سَرًّا إذا كان أجوف فجعل في جوفه عوداً ليقدح به”(82) وليس هذا ما قصده الشاعر في البيت كما وضح فالسياق يأباه.

        من خلال ما سبق عرضه ظهر جلياً أن عملية التبادل الصوتي تؤدي إلى اختلاف المعنى، وتقع بين الأصوات الصامتة، والصائتة، وهي ذات أثر فعال في صنع المعنى الشعري، فاستبدال صوت مكان آخر يؤدي إلى اختلاف المعنى لذا يحرص الشاعر على اختيار الكلمة ذات الأصوات الملائمة للمعنى المقصود في البيت.

        وكذلك الأمر بالنسبة للأصوات الصائتة فهي تشكل في كثير من الأحيان نواة للمعنى المعجمي المحكوم بالسياق عند الشاعر، لذا يعمد الشاعر إلى إيثار الفتح أو الكسر أو الضم في فاء الكلمة أو التحريك أو الإسكان في عين الكلمة، وفاء للمعنى المقصود عند ـ

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu