الهوية وعلاقتها باللغة [1] بقلم أ.د/ عبد التواب الأكرت
أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم السابق بكلية اللغة العربية بالقاهرة ومقرر اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة بجامعة الأزهر
إن “علاقة الهوية باللغة علاقة جدلية تفاعلية، إذ ليست اللغة أداة للتعبير فحسب، ولا وسيلة للتواصل بين الأفراد، ولا شأنا من شؤون العلم والثقافة والتدريس، لكنها شأن من شئون الهوية والأمن القومي والسيادة الوطنية والاستقرار الاجتماعي والنفسي، حيث اللغة مؤلف رئيس من مؤلفات الهوية في كل بلد، أو وطن، أو أمة، بل الهوية مفهوم ذو دلالة لغوية واجتماعية وثقافية، يعني الإحساس بالانتماء إلى أركان الهوية التي هي الدين، والثقافة والاجتماع.
أما اللغة فهي الناطق الرسمي بلسان الهوية، ووسيلة إدراك العالم وتصنيف المجتمعات، ونظرا إلى خطرها وشموليتها هي مسؤولية كل الجهات التي تكوِّن عناصر المجتمع، مسئولية المجامع ومؤسسات التربية وأجهزة الإعلام والمنظمات الثقافية، ووجهاء الأمة وبسطاء العامة؛ لأن اللغة هي الهوية ذاتها، وهي الأداة التي نحوِّل بها المجتمع إلى واقع، وثقافة الأمة كائنة في لغتها، في معجمها وصرفها وتراكيبها ونصوصها، وما من حضارة إلا وصاحبتها اللغة، وما من صراع بشري إلا ويكمن خلفه صراع لغوي خفي، فالهوية نتاج المعاني والقيم التي يشيدها الأفراد عبر اللغة، والطابع الخاص بمجتمع من المجتمعات ناتج من تفاعل ما يسري بداخله من خطابات لغوية مرتهنة بالتغيرات التاريخية”.([1])
والذين لا يريدون الخير لنا ولهويتنا، وأدركوا أن العربية لها تأثير هائل عن العرب في تشكيل وعيهم الديني والثقافي، أرادوا لنا أن نسير في ركب التقدم، وأن نترك لغتنا، فهي لغة مندثرة صعبة التركيب، وعفا عليها الزمن، وأن نتجه إلى لغة أخرى أكثر سهولة ويسرا فنتخلى عن قواعدها اللغوية والنحوية التي لا يرون طائلا من ورائها، ولكنهم غفلوا عن حقيقة هامة، وهي أن اللغة التي يريدون أن نهجرها ونبدلها بلغة أكثر سهولة، هي اللغة التي اختارها الله مدادا لقرآنه الخالد، والذي وعد الله بحفظه إلى أن تقوم الساعة، كما أنهم غفلوا عن أن هذه اللغة هي لسان العربية ودليل حضارتها.([2])
وقال مصطفى الرافعي: “إن كيان الأمة وهيئتها وسَمْتها، هو مجموع المبادئ المنتزعة من أثر الدين واللغة والعادات والرصيد الثقافي والميراث الحضاري، أما اللغة فهي ذات الحظ الأوفر في إبراز صورة وجود الأمة وكشف أفكارها ومعانيها، بل اللغة وجود الأمة ذاتها؛ فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة، والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها، وعمقها هو عمق الروح ودليل الحس على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل، وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطموحها.”([3])
فإذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وأبناؤها حريصون عليها، ناهضون بها، فخورون بانتمائهم إليها، فهذا يدل على قوة اللغة، واعتزاز أبنائها بها، كل ذلك يؤدي إلى قوة اللغة وقوة أبنائها، وأنهم مالكون لأمر لغتهم؛ لأنها لسانهم الذي يتحدثون به، ودليل حضارتهم، ومن أجل ذلك ركز الاستعمار على لغة الشعوب؛ لأن الشعب إذا تحول عن لغته، استطاع المستعمر أن يفعل منه ما يشاء، وبذلك يحول فكره وعواطفه وثقافته ما دامت تحولت لغته، وبذلك انقطع الشعب من نسب لغته وماضيه، وما ذُلت لغة شعب إلا ذُل أهلها، ولهذا وجدنا الاستعمار يفرض لغته على الأمة المستعمَرة، ويبين للأمة قيمة لغة المستعمرِ وعظمتها، والأمة العزيزة لا تقدم لغة غيرها على لغة نفسها؛ لأن اللغات تتنازع القومية.
و”اللغة العربية تمثل ركنا مكينا في بنيان الهوية، وكانت هي نفسها مؤسسة قائمة على مؤسسة الدين والعقيدة التي ضمنت لها البقاء والانتشار؛ لأن القرآن الكريم حفظها من الزوال والاندثار، بالرغم من تعرضها في مراحل كثيرة من تاريخ العرب السياسي لزلزال التغيير، ولكنه لم يقوى عليها؛ لأن العقيدة في نفوس المؤمنين قائمة، وكانت تستمد قوتها ونفوذها من الكتاب الذي نزل بها، وكانت الهوية التي أقرها النص الشرعي هوية العقيدة والانتماء إلى الدين، ولكن حينما ضعفت دولة العرب بدخول الاستعمار وهيمنت لغته، ضعفت معها اللغة والهوية العقدية، وتعرضت الأمة لأزمة ثقافية وسياسية واجتماعية خانقة، وظل فريق من المعاصرين لا يسلم للعربية سلطة الهوية مطلقة، بل اشترط إعادة صياغتها وفق مطالب الدولة الحديثة وإحداث خلخلة عميقة في بنيتها التركيبية والدلالية والمعجمية حتى تستجيب لحاجات العصر وتواكب التقدم، فإذا تم لها ذلك فليشرع في المعركة الأخرى، معركة الولادة الجديدة، وهي تعريب الفكر والحياة والمجتمع، وتعريب المؤسسات، والواقع أن مشروع التعريب الشامل أُخفق في كثير من الدول العربية.
واللغة العربية في ظل أزمة الاستيلاب لم تفقد مركزيتها على تفاوت بين الدول العربية في التربية والتعليم، ونالها نصيب كبير من النماء والتطور في معجمها ومصطلحاتها وميادين الكتابة الجديدة، ومجالات الإبداع والمعارف الإنسانية، فأسهمت في معالجة معضلة الهوية المهددة”.([4])
================================
[1])) اللغة والهوية في الوطن العربي إشكاليات التعليم والترجمة والمصطلح. تأليف بسام بركة وآخرون، ص82.
[2])) في التعريب والترغيب. د. محمود فوزي المناوي ص145.
[3])) وحي القلم 3/28-30 نقلا من كتاب اللغة والهوية بسام بركة وآخرين ص88.
[4])) اللغة والهوية لبسام بركه وآخرين ص 89-90 بتصرف.