حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الصوابُ اللُّغَوِي [الحلقة الخامسة] بقلم أ.د/ عاطف الأكرت

أستاذ البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية بالقاهرة

أعرض عليك في هذه الحلقة نموذجًا لمعركة لغوية حول أسلوب معاصر مخالف للمأثور من كلام العرب ، وموقفهم تجاه هذه المخالفة ، ومحاولات تخريجه على رأي قديم، أو ردِّه وإلزام الناس بالقديم .

لاحظ بعضُهم أن الأعلام المعاصرة تختفي منها كلمة ( ابن) ، وتُنطق متتابعة بتسكين الحرف الأخير من العلَم.

وأذكر المثال الذي ساقوه لذلك ، وهو : سافر محمد علي حسن.

فهو يُنطق هكذا بدون ابن ، كما يُسكَّن الحرف الأخير في كل الحالات فيقال : سافر محمدْ عليْ حسنْ، ورأيتُ محمدْ عليْ حسنْ، ومررت بمحمدْ عليْ حسنْ، وفي هذا اختفاء للإعراب المميز للكلام.

فماذا فعل اللغويون تجاه هذا الأسلوب ؟

هل نُجاري العرف ، ونتخلَّى عن الإعراب ؟ أو نُلزم الناس بالنطق الصحيح ؟

تلك هي المعركة التي شهد مجمع اللغة العربية بالقاهرة أحداثها لمدة تزيد على عشرين عاما، أي نعم ، عشرون عاما يناقش الأعضاء هذا الأسلوب حتى انتهوا إلى قرارهم الصادر في الدورة الرابعة والأربعين سنة 1978م ، ونَصُّ القرار:

” يُجيزُ المجمعُ ما يجري على الألسنة من حذف ( ابن) من الأعلام المتابعة في مثل: سافر محمد علي حسن ، وتُضبط هذه الأعلام على أحد الوجهين:

  • يُعرب العَلَم الأول بحسب موقعه، ويُجرُّ ما يليه بالإضافة.
  • تُسكَّن الأعلام كلُّها إجراءً للوصل مجرى الوقف” ([1]).

والمجمع في هذا القرار يقدم الوجه الأول وهو الإعراب لأنه أقرب إلى القديم ، على الوجه الثاني وهو المستعمل.

وأعود بك إلى أوائلها ، وأسرد عليك أحداثها فيما يلي لكي تدرك معاناة اللغويين في معالجة أساليب العصر .

في الدورة الحادية والعشرين للمجمع ، وفي الجلسة الخامسة والعشرين التي انعقدت في 25 من أبريل سنة 1955م قال الأستاذ: أحمد حسن الزيات :

” سافر محمد علي حسن – كيف ننطق بهذه الجملة؟ وكيف نعربها؟

كان العربي إذا ذكر الرجل والمرأة مصحوبًا بذكر أبيه، أو أبيه، وجدِّه قال : محمد ابنُ علي بنُ حسن ، أو فاطمة بنت محمد بن علي مثلا ، ويتبع الابن أو البنت إعراب الاسم الذي قبله .

ولا يزال هذا التركيب مستعملا في الأقطار العربية ، ولكن المُحْدثين في مصر ولبنان وسورية ، وبعض مدن العراق يحذفون لفظ الابن تأثرًا بالفرنج أو بالترك ، فيقولون : محمد علي حسن ، وفاطمة محمد علي ، ويسكِّنون أواخرَ هذه الأعلام ؛ لأنهم – في الواقع – لا يعرفون كيف يُعربونها ؟ ولا لأي قاعدة من قواعد النحو يُخضعونها.

ومن واجب المجمع أن يتخذ قرارًا في هذه المسألة .

فإذا لم يُجز المجلسُ التسكينَ في هذا الموضع – من باب التخفيف – فإني أقترح أن يُعربَ الاسمُ على حسب العوامل فيُرفع أو يُنصب أو يُجر ، وأن يُجرَّ الثاني والثالث إما بإضافة كل منهما إلى لفظ (ابن) المحذوف.. .، وإما بمعاملتها معاملة الاسم واللقب في إضافة الأول إلى الثاني والثاني إلى الثالث” ([2]).

عرض الزيات المشكلة ، واقترح الحل ، ولكن المسألة كانت تحتاج إلى دراسة متأنية فأُحيلت إلى لجنة الأصول لدراستها دراسة وافية ، وتقديم تقرير عنها.

درست لجنة الأصول القضية ، وقدَّمت تقريرًا عُرِض على المجلس في الجلسة الثلاثين من نفس الدورة ، وجاء في تقريرها :

” أما التركيب : (سافر محمد علي حسن) بإضافة علي إلى محمد، وحسن إلى علي ، فترى اللجنة إجازتَه إذْ أجازه النحويون ” ([3]).

واللجنة في هذا التقرير ترى إعراب الأسماء المتتابعة بالإضافة قياسًا على إضافة اللقب إلى الاسم ، فيقال في المثال المذكور: سافر محمدُ عليِّ حسنٍ ، ورأيتُ محمدَ عليِّ حسنٍ، ولكنها غفلت عن الثقل الناشئ من تتابع الإضافات.

وقد عالج النحاة مجيء الاسم واللقب متتابعين قال سيبويه: “إذا لقَّبتَ مفرداً بمفرد أضفتَه إلى الألقاب، وهو قول أبي عمرو، ويونس والخليل، وذلك قولك: هذا سعيدُ كُرزٍ، وهذا قيسُ قفَّة قد جاء، وهذا زيدُ بطَّةً”([4]) ، وهذا رأي البصريين ، واستدل بثلاثة من علماء البصرة قالوا به، والكوفيون يرون الإتْباع ، ” و وذهب الكوفيون إلى جواز إتباع الثاني للأول على أنه بدل منه أو عطف بيان، نحو: “هذا سعيد كرز”، و”رأيت سعيدا كرزا”، و”مررت بسعيد كرز”، والقطع: إلى النصب بإضمار فعل، وإلى الرفع بإضمار مبتدأ، نحو: “مررت بسعيد كرزا وكرز”، أي: أعني كرزا، وهو كرز” ([5])..

فيقال على هذا : جاء محمدٌ عليٌّ حسنٌ ، ورأيت محمدًا عليًّا حسنًا .

وعلى كلا الوجهين ( الإضافة و الإتباع) يبقى الإعراب، وهو متروك في الاستعمال: الرسمي ( اللغة المشتركة )، والعامي على السواء، ولا يُستعمل إلا تسكين الآخر.

كان المجمعيون في مُشكلٍ لغوي : كيف يحملون الناس على التغيير لتوافق لغتُهم إحدى الطرق القديمة ، فيُعربون أسماءهم إذا جاءت في سياق رسمي ( خطابة ، أو كتابة ) ، ويلتزمون الحركات فيها ، فنلزم مذيع النشرة أن يقول: تقابل السيدُ محمدُ عليِّ حسنٍ مع نظيره السيدِ محمدِ عليِّ حسنٍ ؟! مع ما فيه من الثقل الذي ينفر منه الذوق، وتكرهه الأذن.

ونقول له : هذا رأي البصريين ، ولك خيار آخر لدى الكوفيين فتقول: التقى السيدُ محمدٌ عليٌّ حسنٌ نظيرَه السيدَ عاطفًا محمدًا حسنًا.

رأوا أن هذه الصور لن يستطيع اللغويون فرضها على الواقع ، وعلى اللغة المستعملة، وأنهم أمام نمط جديد لا يُقاس على إضافة الألقاب إلى الأسماء ، وأن الإسكان يناسب هذا النمط.

لم يتوصل أعضاء المجمع إلى رأي شافٍ في هذه القضية فـ “ووفق على تأجيل النظر في هذا الأسلوب إلى الدورة المقبلة ” ([6]) .

وفي الدورة التالية ( الثانية والعشرين لسنة 1956م) أعدَّ الأستاذ الزيات بُحيثًا يؤيد فيه رأيه السابق ، ويضيف إليه من الأدلة ما يقويه ، وكان عنوانه: ” رأيٌ في قولهم: سافر محمد علي حسن ” ، واقترح على المجمع أن يُجيز تسكين الأعلام المتتابعة من باب التخفيف ، ولو بسند ضعيف من القياس أو السماع ، وأضاف دليلًا على التسكين : القياس على الحروف المقطعة في أوائل السور فإنها تُنطق بالسكون([7]).

ناقش الأعضاءُ البحث ، ولم يتوصلوا إلى رأي فيه ” فوُوفق على إحالة البحث إلى لجنة الأصول لتدرسه ، وتقدمَ تقريرها إلى المؤتمر قبل نهايته” ([8]).

وفي الجلسة الختامية للمؤتمر عرضت لجنة الأصول تقريرها الذي تمسكت فيه بإعراب الأسماء بالإضافة، وعدم جواز التسكين ، وردت على بحث الزيات بالقول: ” وترى اللجنة أن قراءة الأعلام المتتابعة موقوفة ( ساكنة) على الحكاية قياسًا على أسماء حروف التهجِّي في أوائل السور قياس لا يستقيم ؛ لأن العلماء نصُّوا على أن أسماء الحروف الهجائية كثر استعمالها معدودة ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد حتى صارت هذه الحالة كأنها أصل فيها ، وما عداها عارض ، فلما جُعِلت أوائلَ لِلسور جازت حكايتُها على تلك الهيئة الراسخة ، وأما الأسماء قبْل التركيب فإنها – وإن كان يوقف عليها بالسكون – فإنها لا تُساوي حروف الهجاء ” ([9]) .

وبدأ الحوار بين الأعضاء حول هذه القضية، وأنقل لك طرفًا من هذه المناقشة الماتعة بين الكبار:

طه حسين : بَنَتْ لجنةُ الأصول تقريرها على أقوال القدماء من النحاة ، وبقي أن يقول الجُدُدُ كلمتَهم في هذه الأيام التي كثُر فيها ترديدُ الأسماء في الصحف والإذاعة وغيرها بطريقة لم يكن القدماء يُقدِّرونها .. وأنا لا أرى مانعًا من الموافقة على توجيه الأستاذ الزيات لهذه الطريقة.

العقاد : لا إضافةَ في نسق الأسماء فإذا قلت : أحمد زكي ، فأنا لا أضيف أحمد إلى زكي ، وإنما ذلك أقرب إلى الصفة ، ونحن في الواقع إذا بحثنا عن قاعدة نعتمد عليها فإننا لا نجد قاعدة ، ولا يبقى أمامنا إلا التخريج ، والقول بأن ذلك موقوفٌ (أي ساكن) على الحكاية تخريج لا بأس به .

طه حسين : مهما يتشدد النحاة ، ومهما يقُل النقاد فلن يصلوا إلى إعراب الأسماء ، وسنظل نقول : الشيخ محمدْ عبدُه بضم الدال لا بكسرها على الإضافة.

الزيات : كان السرد في أسماء الحروف سنة متبعة ، وكذلك في أسماء الأشخاص .

إبراهيم مصطفى : الواقع أن القياس على ( طسم) ونحوها قياس مع الفارق ؛ فهذه كلمات موقوفة لا جزء من جملة ، وإنما سكنت لأنها ليست جزءا من جملة ، ولو جاء ( محمد علي حسن) وحده لكان حكمه التسكين ، لكنه يجيء في جملة تقتضي الإعراب.

الزيات : أعرب الخليل وسيبويه أسماء السور على الحكاية .. وكذلك نفعل إذا قلنا : (جاء محمد علي حسن) فإننا نعربُه فاعلًا على الحكاية.

طه حسين: على الأستاذ إبراهيم مصطفى أن يختار بين اثنتين :

فإما أن يوافق على إلغاء الإعراب جملة ، وإما أن يلغيه في سرد الأعلام وحده.

إبراهيم مصطفى : إذا قبلتُ الإسكان في سرْد الأعلام فهو مَدْرجة إلى أن
أقبله جملة في كل شيء .. وإني أقرر أن قولهم : ( سافر محمد علي حسن) بتوالي الإسكان ليس مخالفا لنحو اللغة العربية فحسب ، وإنما هو مخالف أيضا لروح اللغة وفقهها ، وطبيعتها التي تباعدت عن الإسكان.

الزيات : إعراب فواتح السور الساكنة على الحكاية نص لا تخريج ، وقياس أسماء الناس على أسماء السور قياس صحيح.

الشيخ محمود شلتوت : هل تُعتبر فواتحُ السور أسماء؟ وهل يعتبر كل حرف بها أسما؟ هناك حروف تنطق مسرودة ساكنة بأسمائها لا بمسمياتها فهل هذه الحروف اسم لسورة؟

الزيات : لقد عقد سيبويه بابا لأسماء السور.

الدكتور : أحمد عمار : هذا أول العامية .

إبراهيم مصطفى : إذا أردتم الإسكان فقرِّروه على أنه إقرار لأسلوب عامي شاع على الألسن فسجلته الضرورة ، وليكن واضحًا أنه لا سنَدَ له من العربية.

طه حسين : يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر ، وهذا في الدين فكيف بالكلام؟ ([10]) .

  هذا طرف من المناقشة العلمية التي جمعت فحول اللغة العربية في العصر الحديث.

وأمام هذا المأزق الذي يرى فيه الأعضاء استعمال الأسماء ساكنة حاول بعضهم تسويغ الأسلوب – نحوًا – بالقياس على تسكين حروف التهجي ( الزيات ، وطه حسين، والعقاد، ومنصور فهمي)، ورفض بعضهم ، وعدَّ الأسلوب ضرورة مُحْدَثة ( إبراهيم مصطفى ، الشيخ شلتوت، د/ أحمد عمار) .

ولم تخلص المناقشة إلى رأي قاطع في الأمر فأجَّلوا البتَّ فيه.

( يُتبع)

========================

[1] ) مجموعة القرارات العلمية في خمسين عاما ص 36، أخرجها ، وراجعها: محمد شوقي أمين، وإبراهيم الترزي ، ط الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية ، 1404هـ – 1984م .

[2] ) محاضر الجلسات في الدورة الحادية والعشرين  ص 218، أعدها، وأشرف على إخراجها: الأستاذ : محمد شوقي أمين ( عضو المجمع) ، ط دار الشعب 1978م.

[3] ) السابق ص 261 .

[4] )  الكتاب 3 / 294  ، تحقيق : أ. عبد السلام محمد هارون ، ط مكتبة الخانجي، القاهرة

الطبعة: الثالثة، 1408 هـ – 1988 م.

[5] ) شرح الأشموني على ألفية ابن مالك ج 1 ص 112،  ط 1 دار الكتب العلمية بيروت- لبنان ، 1419هـ- 1998مـ.

[6] ) محاضر الجلسات في الدورة الحادية والعشرين ص 262.

[7] ) محاضر الجلسات في الدورة الثانية والعشرين ص 365 ، أشرف على إعدادها ، وإخراجها : محمد شوقي أمين ( عضو المجمع) ط الأميرية 1399هـ – 1979م. ومجلة مجمع اللغة العربية ج12  ص 61، ط روز اليوسف.

[8] ) محاضر الجلسات في الدورة الثانية والعشرين ص 368 .

[9] ) محاضر الجلسات ص 503 .

[10] ) تُراجع هذه المناقشة في محاضر الجلسات ص 504، ومجلة المجمع 12 / 65.

 

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu