حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الخطاب القصدي وآلياته التواصلية في أسلوب العطف (نموذج الإمتاع والمؤانسة) [الحلقة الثانية] بقلم أ.د/ حسين كتانة

أستاذ البلاغة العربية في جامعة آل البيت - الأردن [تم النشر بإذن من سيادته]

أولا: معاني العطف بين التصور والاستعمال

يرتبط التصور في الخطاب القصدي للعطف ببعدين أساسيين : بعد عقلي، والآخر تأثري. فالبعد العقلي يتجلى في التصور الذي ينفذ البلاغي من خلاله إلى الجامع العقلي في الاشتراك في المخبر عنه، أو في الخبر، أو في قيد من قيودهما، أو تماثل بينهما. ولذلك ينقل عن العقل في بناء المعاني واختيارها : “والعقل يتدرج من الجزئيات المركبة إلى الوسائط الكلية، والإحاطة بالمعاني البسيطة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني المركبة، ليتوصل بتوسطها إلى استثباتها، والإحاطة بالمعاني المركبة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني البسيطة ليتوصل بتوسطها إلى تحقيق إثباتها”[1]. ولا يبتعد هذا التصور للعقل في بناء المركبات التي يدخل في مواضيعها معاني العطف، ما أشار إليه السكاكي بدور الجامع العقلي في العطف، وذلك في قوله: ” والجامع العقلي هو أن يكون بينهما اتحاد في التصور..فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخص في الخارج، يرفع التعدد عن البين، أو تضايف كالذي بين العلة والمعلول، والسبب والمسبب، أو السفل والعلو، والأقل والأكثر، فالعقل يأبى أن لا يجتمعا في الذهن، وأن العقل سلطان مطاع”[2].

        أما البعد التأثري، فقد ساهمت فيه كلا المرجعيتين؛ النحوية والمنطقية؛ التي نلمس تجلياتها النظرية في النص التأسيسي الذي عرضته المناظرة التي جرت بين السيرافي، و متَّى بن يونس المنطقي في مجلس ابن الفرات وهي تشير إلى مدلول الخطاب القصدي للعطف؛ حيث جاء في محاور جدلها قصدية المعنى في أسلوب العطف، قال ابن الفرات :

” أيها الشيخ الموفق أجب بالبيان عن مواقع “الواو” حتى تكون أشد في إفحامه، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه، ومع هذا فهو مشنع به. فقال أبوسعيد: للواو وجوه ومواقع : منها معنى العطف في قولك: “أكرمت زيدا وعمرا”، ومنها القسم في قولك: “والله لقد كان كذا وكذا”، ومنها الاستئناف في قولك: “خرجت وزيد قائم” لأن الكلام بعده ابتداء وخبر، …ومنها أن تكون أصيلة في الاسم، كقولك: واصل ،واقد، وافد، وفي الفعل كذلك، كقولك: وجل يوجل، ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله عز وجل:{فلما أسلما وتلَّه للجبين وناديناه} … ومنها؛ أن تكون بمعنى حرف الجر، كقولك: استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة.”[3] فكان بيان هذه الأغراض للعطف عند السيرافي من باب التمكن من فهم معاني اللغة، والدراية بمعاني حروفها التي قال عنها :”ومن جهل حرفا أمكن أن يجهل حروفا، ومن جهل حروفا جاز أن يجهل اللغة بكاملها”[4].

حينما عرض التوحيدي هذه المناظرة بكاملها، والتي انتهت بقول متىَّ: “لو نثرت أنا أيضا عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي”[5]. أشار إلى الخطاب القصدي في موضوع العطف الذي يمثل في نظره المعاني والألفاظ وارتباطها بالقضايا اللغوية والمنطقية. فقد رأى بعد إبداء التمعن، أن المناظرة تحتاج إلى جانب ثالث في خطابها القصدي يهم بلاغة المعاني، والأشباه المقربِّة. ولهذا نجد التوحيدي يجعل لنفسه موضعا  في هذه المناظرة ويميز لنفسه فنا مضافا، فيقول عن نفسه:”وهذا الناشيء أبو العباس قد نقض عليكم وتتبع طريقتكم، وبين خطأكم، وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال، …فأما إذا حاولتَ فرش المعنى، وبسط المراد فاجْلُ اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقرِّبة، والاستعارات الممتعة، وبين المعاني بالبلاغة، أعني لوِّح منها لشيء حتى لاتصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عزَّ وحلا، وكرُم وعلا؛ واشرح منها شيئا حتى لايمكن أن ُيمترى فيه أو يُتعَبَ في فهمه أو يُعَرَّجَ عنه لاغتماضه؛ فهذا المذهب يكون جامعا لحقائق الأشباه ولأشباه الحقائق؛ وهذا باب إن استقصيته خرج من نمط ما نحن عليه في هذا المجلس؛ على أني لا أدري أيؤثِّر فيك ما أقول أوْ لا؟”[6].

يدرك المتأمل في هذا النص، أن التوحيدي تأثر بموضوع القصد في خطاب العطف، الذي رأى فيه موضوعا خصبا للمحاججة والجدل في المعاني التي يحملها، فأراد أن يجعل منه مادة للمناقضة وقوة للمفاوضة كما هو الشأن عند معاصره أبوهلال العسكري (ت.395هـ) في كتابه “ديوان المعاني”، الذي يرى أن عطف المعاني لها قوة استدلالية تحتاج في فهمها إلى استنباط، وتعليل، وبيان للحدود، ومقاصد للأغراض. وفي هذا الإطار، نجد كتاب الإمتاع والمؤانسة يستند في سياقه المستعمل على نماذج من عطف المعاني قلما ينتبه إليها في المناسبات التي يحتاج فيها إلى دقة المعاني وضبط في البيان.

==========================

[1]-الإمتاع والمؤانسة، 2/216.

[2]-مفتاح العلوم، ص.253.

[3]– الإمتاع والمؤانسة 1/88.

[4]-نفسه، ص.1/87.

[5]-نفسه، ص. 1/91

[6]-نفسه، 1/93.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu