حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

المقياس الصوتي النقدي للغات العرب المزهر للسيوطي أنموذجًا [الحلقة الأولى] د/ رجب فوزي إمام

مدرس أصول اللغة بكلية اللغة العربية بأسيوط - جامعة الأزهر

عاش العرب في شبه الجزيرة العربية، ونظرًا لانتشار اللغة العربية، وتحت تأثير عوامل كثيرة – اجتماعية، وسياسية، وجغرافية، وفسيولوجية – انقسمت إلى لهجات، وبدا الخلاف بين هذه اللهجات من ناحيتين: إحداهما: الناحية المتعلقة بالصوت، فتختلف الأصوات التي تتألف منها الكلمة الواحدة، وتختلف طريقة النطق بها تبعًا لاختلاف اللهجات، والأخرى: الناحية المتعلقة بدلالة المفردات؛ فتختلف معاني بعض الكلمات باختلاف الجماعات الناطقة بها([1])، ولقد وضع العرب مقياسًا صوتيًا لتفضيل لهجة قبيلة على أخرى، وهو البعد عن العيوب الصوتية؛ ولذلك عُدّت لهجة قريش، أفصح اللهجات؛ وذلك بسبب تطورها، وأخذها من جميع اللهجات أفضل ما فيها، بالإضافة إلى أسباب أخرى، وفق مقاييس الفصاحة والذوق، وقد تحولت هذه اللهجة شيئًا فشيئًا حتى صارت لغة جامعة موحدة، يستخدمها الشعراء، والخطباء، على اختلاف قبائلهم، محتفظين أحيانًا ببعض خصائص لهجاتهم([2])، وهذا المعنى ما نقله السيوطي: «قال الفراء: كانت العربُ تحضر المَوسِم في كل عام، وتحجُّ البيتَ في الجاهلية، وقريشٌ يسمعون لغاتِ العرب، فما اسْتحسنوه من لغاتهم؛ تكلموا به، فصاروا أفصحَ العرب، وخلَتْ لغتُهم من مُستبْشع اللغات ومُستقبَح الألفاظ»([3]).

        يستنتج من ذلك أن من أهم أسباب فصاحة لهجة قريش – إذا ما قورنت باللهجات الأخرى – هو خلوها من هذه الصفات المذمومة التي لحقت ببعض اللهجات العربية، كالعنعنة، والكشكشة، والتلتلة، وسواها([4]).

        ومما تجدر الإشارة إليه أن العلماء حينما تحدثوا عن هذه العيوب الصوتية، أطلقوا عليها «باب اللغات المذمومة» كما فعل ابن فارس([5])، أو «معرفة الرديء المذموم من اللغات» كما فعل السيوطي([6])، ولم يكن مقصود هؤلاء العلماء أن هذه اللهجات «اللغات» كلها مذمومة معيبة، بل المقصود بالمذموم أو الرديء تلك الصفة اللغوية التي لحقت بهذه اللهجة أو تلك، في هذا الموضع المقصود([7]).

     وقد تابع هذا الرأي من المحدثين الدكتور صبحي الصالح، وأرجع سبب ذمها لندرة الاستعمال التي ينتج عنها فقد اللغة لأهم وظائفها، وهو التواصل بين أبناء اللغة الواحدة، حيث قال: «لو أن شاعرًا ضمّن شعره شيئًا من كشكشة ربيعة, أو طمطمانية حمير, أو عجعجة قضاعة، وغدا ينشده في بعض أسواق العرب؛ لغلبوه على أمره بالمكاء والتصدية، ولصيّروه أضحوكة من التهكم به، والتندر عليه»([8]).

        ويرى ابن جني أن هذه اللهجات ليست مذمومة، وأن المتكلم بها ليس مخطئًا لكلام العرب، لكنه مخطئ لأجود اللغتين، وهذه اللهجات عنده جيدة، ولغة قريش عنده الأجود بين اللغات، والأفضل بين اللهجات، وغيرها لغات أو لهجات مفضولة، وجعل كثرة الاستعمال معيارًا حاكمًا للفرق بينها([9]).

     وقد تابعه في هذا الرأي من المحدثين الدكتور فاضل السامرائي، حيث قال: «ولعل حرصهم على أن يسود الفصيح المشهور هو الذي حملهم أن ينعتوا الشنشنة، والكشكشة، والطمطمانية، والعجعجة، وما إلى ذلك من ألوان اللهجات باللغات المذمومة»([10]) .

=========================

([1])  ينظر: اللغة والمجتمع للدكتور علي وافي ص 115، 116.

([2])  ينظر: فقه اللغة مسائله ومناهله للدكتور محمد أسعد النادري ص 226.

([3])  المزهر: 1/221 .

([4])  ينظر : فقه اللغة مسائله ومناهله ص 227 .

([5])  ينظر : الصاحبي ص 29 .

([6])  ينظر: المزهر 1/221 .

([7])  ينظر : فقه اللغة للدكتور محمد أسعد النادري ص 227 .

([8])  دراسات في فقه اللغة ص 69.

([9])  ينظر : الخصائص 1/12 – 14 .

([10])  ينظر : فقه اللغة للدكتور فاضل السامرائي ص263.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu