حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

تذوق “عبد القاهر” الفني في كتابه “دلائل الإعجاز” [الحلقة الثالثة] د. محمد عرفة

الأستاذ المساعد بجامعة الجوف بالمملكة العربية السعودية

والذوق يتسم بالعمومية والانطباعية؛ إذ يعرفه صاحب المعجم الفلسفي بأنه :”ملكة الحكم على الأعمال الفنية عن طريق الإحساس والتجربة الشخصية دون تقيد بقواعد معينه”.([1])ومن ثم فالذوق حكم عام شخصي انطباعي لا يُتطلب له التبرير في حال القبول أو الرفض.

        وإذا كان (الذوق) أمراً شعوريًا قد يحدث بطريقة عفوية فطرية بغرض الاستمتاع بفن القول، فإن (التذوق) أمر متعمد مقصود لغاية. إذ يشير الدكتور عبد القادر عبد الجليل إلى أن”من معاني الفعل الذي يأتي على وزن (تفعّل) التكلف، مثل : تجلّد ، تحملّ”.([2])        

      ومن ثمَّ، فالتذوق سلوك إجرائي، يتكلفه المرء ويقوم به لغاية، هي الوقوف على مواضع المزية في النصوص من خلال تحليلها.

      “والتذوق” قد لا يخلو من جانب انطباعي، لكن ما يتميز به عن “الذوق” كونه انطباعًا مبرراً معللاً، لا يتصف بالعمومية كالذوق وإنما يكون أكثر انضباطًا وتحديدًا.

       وكثيراً ما كانت تطلق الأحكام النقدية في عصور الأدب الأولى مبنية على الذوق، دون تعليل أو بيان للأسباب التي فُضل بها قول على قول، أو تميز بها شاعر عن شاعر، حتى قيل لخلف الأحمر:”إنك لا تزال ترد الشىء من الشعر، وتقول هو ردى، والناس يستحسنونه، فقال: إذا قال لك الصيرفي: إن هذا الدرهم زائف، فاجهد جهدك أن تنفقه، فإنه لا ينفعك قول غيره: إنه جيد”([3]) حتى صار الذوق الأدبى سمة هذا العصر، وصرتَ “وقد تجد لبعض الكلام عذوبة في السمع وهشاشة في النفس، لا توجد مثلها لغيره فيه والكلامان معًا فصيحان، ثم لا يوقف لشىء من ذلك على علة”.([4])

        وهذا النمط من التناول الأدبي هو الذي يقوم على “الذوق”، بانطباعية وعمومية وعدم التعليل والتحليل، ولا أدعي أن من يعمد إلى “الذوق”، قد لا يمتلك معايير الحكم، ولكن ليس عليه أن يبدي تلك المعايير ويعلن عنها، أو أن يبرر سبب إعجابه أو رفضه.

        لأنه إن فعل فقد انتقل من “الذوق” إلى “التذوق”، ومن ثم فالتذوق – وإن لم يتخل عن جانب من الانطباعية- إلا أنه يكون معللاً ومبررًا، يعلن عن سبب قبوله أو رفضه. وهذه الوجهة في تعريف التذوق قائمة على ما ذكرناه من أن الصيغة الصرفية “تفعُّل” تحمل معنى التعمد، ومن ثم فإن تعمدك البحث عن مواطن المزية أو الضعف في قول ما، لابد أن يكون قائمًا على أسباب وعلل، وتلك هي اللمحة الفارقة بين “الذوق”و”التذوق” وتلك التي تتطلب – كما ذكرت معاجم العربية- تكرار الذوق مرة بعد مرة، ولكن وصولا إلى تلك الأسباب والعلل التي تبرر تذوقك.

        والحق إن لعبد القاهر الجرجاني الفضل في الالتفات إلى هذا الجانب – جانب التعليل- حين أشار إلى أنه” لابد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل”.([5])  

        إن النظرة إلى “الذوق” على أنه نمط من أنماط الإحساس بالجمال والتفاعل معه، دون الاهتمام بإبداء الأسباب أو تعليل ذلك الجمال، هو مذهب يؤيده الدكتور مصطفى الصاوي الجويني بقوله:”الذوق هو حاسة الجمال ولكن أكثر ضبطا، هو الإحساس بملاءمة شكل الأشياء لقوانا المدركة. الذوق هو الإحساس بوجود الشكل الحسن”،([6]) أما “التذوق” فهو ليس إحساسًا بالجمال فحسب، وإنما درجة من درجات النقد الأدبي، بل هو- كما يشير “ريتشارد .ب.بلاكمور”- ([7])غاية النقد.

       إذًا ما يميز “التذوق” عن “الذوق” أنه يكون معللاً بعلل الاستحسان أو الاستهجان، وأنه يكون خطوة تالية للذوق الذي قد يكون للعامة أو الخاصة، بينما التذوق يعلو خطوة، ليكون للخاصة دون العامة.

       أما خاصة الخاصة، طبقة عبد القاهر الجرجاني ومن في قامته من النقاد والبلاغيين، فهم أهل التذوق الفني، وهي طبقة لا تقف عند حدود التذوق؛ فتبدي العلل والبراهين، وإنما تنطلق إلى صياغة المعايير الفنية البلاغية، من خلال التذوق والتحليل.

       إن التذوق الفني”هو قبول أو رفض، واستحسان أو استهجان النص الأدبي، من خلال الدرس والتأمل لفنون القول في إطار المعايير الفنية البلاغية والنقدية، وذلك بتطبيقها أو التأصيل لها؛ وهو مسلك عبد القاهر الجرجاني، حين جعل أول قواعده أن تمسك النص المتذوَّق وتعمل فيه العقل، وتتغلغل في زواياه، حتى وإن كانت قد صدرت بشأنه أحكام عامة مسبقه أجمع عليها،لأن ذلك وإن كان معلومًا على الجملة، فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه غايته، وحتى يغلغل الفكر إلى زواياه، وحتى لا يبقي عليه موضع شبهة، ومكان مسألة”.([8])  

       هذا الذي يشير إليه عبد القاهر هو جوهر التذوق الفني وغايته، وأما مراحله فيشير إليها الدكتور عبد الفتاح حجاب، إذ تبدأ “باستقراء النصوص، واستلهام المعاني، وتقليبها على أوجهها، والربط بين مضمون كل أداة والمعنى الذي عبرت عنه، والموقف الذي استعملت فيه .. للخروج بفروق عديده لا نجدها في مظانها من أمهات الكتب التي عرف أصحابها ببيان هذه الفروق”.([9])

       وآية التذوق الفني، الاعتناء بانتقاء الشواهد وكثرتها وتنوعها وتحليلها تحليلاً أديتا، وإجراء الموازنات الذكية الفنية، والتخفف من الشواهد المصنوعة، والابتعاد عن المنطق بقواعده الذهنية وجموده وتقسيماته وتلك الخصائص للتذوق الفني لم تكن – كما سيتضح من البحث – بعيدة عن عبد القاهر، بل لا يجانبا الصواب إذ قلنا إن منبعها هو عبدالقاهر الجرجاني.

       خلاصة القول، إن التذوق مرحلة بين الذوق والتذوق الفني، فالذوق هو إحساس فطري انطباعى بالجمال، ثم تكرار الذوق مرات وصولاً إلى مواضع المزية التي تعلل لذلك الجمال وتبرره، فهذا هو التذوق، ثم التذوق الفني الذي يقوم – من خلال آليات متعدد – على غاية أكبر من سابقية، غاية وضع المعايير الفنية لذلك الجمال الذي أحس به ثم بين مواضع المزية فيه.

 ======================

(1) المعجم الفلسفي، منشورات مجمع اللغة العربية،مصر، سنة1403/1983، ص89، مادة: ذوق.  

(2) عبد القادر عبد الجليل، علم الصرف الصوتي، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، ط1، سنة 1998، ص238.

(3) الآمدي، الموازنة بين أبي تمام والبحتري، تح : محمد محي الدين عبد الحميد، د.ت، ص 374.

(4) أبو سليمان الخطابي، بيان إعجاز القرآن “ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن”، تح :محمد زعلول سلام ومحمد خلف الله أحمد، دار المعارف، ط4، ص24.   

)5) دلائل الإعجاز، ص41.

ويلاحظ أن بيان علة ما يستعذب من فنون القول أمر سُبق إليه عبد القاهرالجرجاني، لكنه لم ينل من الاهتمام والعرض المنهجى والخضوع لنظرية لها قيمتها وأبعادها كنظرية النظم كما كان عند عبد القاهر. وممن سبق إلى وجوب البحث عن مواطن المزية في الكلام، وعدم اطلاق عبارات الاستحسان بتعميم دون تعليل، أبو سليمان الخطابى، حين أشار إلى أن هذا الاستحسان غير المعلل قول “لا يقنع في مثل هذا العلم”، وأنه “لابد من سبب، بوجوده يجب له هذا الحكم”. يرجع إلى : بيان إعجاز القرآن، دار المعارف، ط4، ص22، ص24.  

(6) مصطفى الصاوي الجويني، ألوان من التذوق الأدبي، منشأة المعارف، الأسكندرية،1972، ص60.

(7) “إن غاية النقد هي التذوق” مقولة لـ”ريتشارد.ب.بلاكمور” أشار إليها “ستايلي هايمن” ثم أضاف: “إلى أن التذوق نفسه يستطيع أن يكون ذا معايير يقيس بها صحته ورصانته”.

– ستانلي هايمن، النقد الأدبي ومناهجه الحديثة، ترجمة: إحسان عباس، دار الثقافة، ستانلي هايمن، النقد الأدبي ومناهجه الحديثة، ترجمة: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1960.

(8) دلائل الإعجاز، ص56.

(9) سيد عبد الفتاح حجاب، منهج عبد القاهر بين الموضوعية والذاتية، مجلة كلية اللغة العربية، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، عدد (10) سنة 1400، ص434.

 

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu