حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

علم اللغة التطبيقي [الحلقة الثالثة: التحليل التقابلي] بقلم أ.د/ عصام فاروق

أستاذ أصول اللغة ووكيل كلية العلوم الإسلامية الأزهرية للطلاب الوافدين لشئون الدراسات العليا- جامعة الأزهر

من المناهج التي اعتُمد عليها في حل المشكلات الخاصة بتعلم اللغة الثانية في ضوء علم اللغة التطبيقي ما يعرف بـ(التحليل التقابلي أو المنهج التقابلي)، والذي يقوم على محاولة تفكيك الأنظمة اللغوية: الصوتية، والصرفية، والنحوية، وزاد بعضهم الحضارية للغتين الأم والمراد تعلمها كلغة ثانية، مع المقارنة بين تلك الأنظمة للوقوف على الاختلافات والاتفاقات.

ومما دعا إلى تبني طريقة التحليل التقابلي في تذليل عقبات التعلم ظاهرة التداخل اللغوي، تلك التي وضحها بعضهم بقوله: ((يحصل التداخل اللغوي عندما يوظف المتعلم- ذو الازدواجية اللغوية- خاصية صوتية أو صرفية أو معجمية أو نحوية للغة الأم في اللغة الأجنبية))([1])

ومن الواضح أن ذلك التداخل يؤدي إلى محاولة سيطرة اللغة الأم على العادات النطقية والكلامية لمتعلم اللغة الثانية خلال تعلمها ونطقها، فيحاول المتعلم اجترار تلك العادات من ساحة لغته الأم إلى اللغة الجديدة المُتعلَّمة.

وقد نبه ذلك اللغويين إلى محاولة دفع ذلك التداخل وغيره من المشكلات النابعة من تصادم نظامين لغويين للغتين منتميتن إلى أسرة لغوية واحدة كالعربية والعبرية، حيث تنتميان إلى أسرة اللغات السامية، أو غير منتميتن من مثل العربية والإنجليزية، فالأولى سامية في حين أن الثانية تنتمي إلى أسرة اللغات الهندو- أوروبية؛ بغية القضاء على مشكلات تعلم إحداهما عبر ناطق باللغة الأخرى منهما.

وقد ذهب الكثيرون إلى أن ((دارس اللغة الأجنبية يواجه صعوبة أكبر في تعلم تلك اللغة إذا كانت وجوه الاختلاف بينها وبين لغته الأصلية كثيرة وجوهرية، بينما تتضاءل تلك الصعوبة إذا ازدادت وجوه الشبه بين اللغتين)) ([2])

وبناءً على ذلك فرقوا بعضهم بين نوعين من عملية استيعاب اللغة، فأطلقوا على سرعة عملية استيعاب التراكيب والصيغ اللغوية التي تشبه تلك الموجودة في اللغة الأم بالنقل الإيجابي، وعلى عملية صعوبة استيعاب التراكيب والصيغ اللغوية التي تختلف عن تلك الموجودة في اللغة الأم بالنقل السلبي.

ولعل هذا الشكل رقم (1) يوضح ذلك.

ويعزى ظهور هذا التحليل إلى العالم الأمريكي روبرت لادو ( Robert Lado) في كتابه (اللسانيات عبر الثقافات)، الذي أبرز فيه فائدة الدراسات التقابلية ذاكرًا ذلك (( في قوله: إن التجارب العملية أثبتت أن المواد الدراسية التي تم إعدادها على أساس من المقارنة الهادفة بين اللغة الأم واللغة الهدف أدت إلى نتائج إيجابية وفعَّالة في تسهيل تناول اللغة الهدف وفي أقصر مدة ممكنة.. )) ([3])

(( ويهدف التحليل التقابلي إلى ثلاثة أهداف:

  1. فحص أوجه الاختلاف والتشابه بين اللغات.
  2. التنبؤ بالمشكلات التي تنشأ عند تعليم لغة أجنبية ومحاولة تفسير هذه المشكلات.
  3. الإسهام في تطوير مواد دراسية لتعليم اللغة الأجنبية.)) ([4])

ومن الواضح أن التحليل التقابلي يعتمد على تنبؤية الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها المتعلم من خلال إيقاف العاملين في مجال العملية التعليمية على الاختلافات والاتفاقات بين اللغتين الأم والثانية من خلال المستويات اللغوية المتعددة.

ومن ثم فإنه يفيد من هذا التحليل التقابلي هذه الطوائف ممن لهم علاقة بتعليم اللغات:

  • معدو المحتوى التعليمي:

يأتي في المرتبة الأولى ممن يفيدون من هذا التحليل معد المحتوى التعليمي؛ لأنه لابد أن يضع نصب عينيه تلك الاختلافات بين الأنظمة اللغوية ومدى إشباع المقررات التعليمية بما يسد خلل تلك الاختلافات ويحاول تقديم تطبيقات وتدريبات، سواء فيما يتعلق بالمفردات أو القواعد، مما  يسهم في حل المشكلات الناشئة عن تلك الاختلافات اللغوية.

  • المعلِّم:

حيث يمكن من خلال اعتماده على نتائج ذلك التحليل الوقوف على المعايير العلمية المنهجية للأخطاء التي يقع فيها المتعلمون نتيجة ما يمكننا أن نسميه (الاصطدام اللغوي) بين اللغتين الأم والثانية، والأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه الأخطاء ومحاولة حلها من جانب وتلافيها في العمليات التعليمية المقبلة من جانب آخر، وبالطبع لا يمكن لكل معلم أن يقارن بين اللغة الأم للمتعلمين خصوصا عند تعدد اللغات التي يتكلمون بها واللغة الثانية، حتى أنه قد يجد صعوبة في تعليم أبناء لغة واحدة؛ لعدم قدرته على سبيل المثال على إتقان تلك اللغة الأم لهم ومحاولة فهم الاختلافات والاتفاقات بينها وبين اللغة المتعلمة.

وهنا يمكنه فقط الوقوف على نتائج تلك الدراسات التقابلية التي يتيحها الباحثون، والنظر في مدى ملاءمتها للشريحة المتعلمة التي يدرس لها.

  • المتعلِّم:

أو لنقل نوع من المتعلمين ذوي الهمة العالية الذي لديهم دراية بالنظام اللغوي للغتهم الأم، واللغة المتعلمة. وقد أصابتني الدهشة حينما طلبت من بعض المتعلمين عقد مقارنات بين النظام اللغوي للغتهم الأم واللغة العربية، فكان الجواب أنهم لا يعلمون القواعد المنظمة للغتهم الأم معرفة جيدة. 

ولذا لا نعول كثيرًا على كثير من متعلمي اللغة الثانية في الإفادة الكبيرة من نتائج التحليل التقابلي، ولذا جعلته في المرتبة الأخيرة من المستفيدين.

ولعل من أكثر الأسئلة إلحاحًا الآن، كيف يُطبق التحليل التقابلي؟

الإجراءات العامة للتحليل التقابلي:

ذكر ويتمان (Whitman) ([5])  أن تطبيق التحليل التقابلي يتضمن أربعة إجراءات، هي:

أولا- الوصف:

ويتحقق بإجراء وصف دقيق ومحدد للغتين المراد المقابلة بينهما، عبر المستويات اللغوية المتعددة: الصوتية، والصرفية، والنحوية، والثقافية، وصفًا مطلقًا دون قيود أو محددات؛ طبقا لما هو متعارف عليه في اتباع المنهج الوصفي.

ثانيا- الاختيار:

في هذا الإجراء يختار المحلل التقابلي أشكالا أو ظواهر لغوية بعينها، سواء أكانت قواعد أم تركيب أم صيغ أم غيرها، لمقارنتها بنظائرها في اللغة الأخرى، وعملية الاختيار هذه تكون محكومة بعامل التشابه، إذ هو المسير الأول والحكم الأخير في عملية التقابل، فليس من المقبول أن نقارن بين الفاعل في اللغة العربية والاسم المجرور في اللغة الإنجليزية، بل نقابل الفعل بالفعل، والمفعول به في العربية بما يقابله في الإنجليزية (Object)، وبين أنظمة الإفراد والجموع في العربية بنظائرها في الفرنسية أو الأردية أو غيرهما، وهكذا تتم المقابلة عبر مستوى يتلو أخاه من المستويات اللغوية، كل ذلك والهدف الموضوع نصب عيني المحلل هو مدى إفادة هذه التقابلات في حل مشكلات تعليم اللغة الثانية.

ثالثًا- التقابل ذاته:

بعد الاختيار تجري عملية المقارنة التقابلية ذاتها، فإذا أمكن وصف النظامين اللغويين للغة الأم واللغة الثانية، واختيار البنى اللغوية التي ستجري مقابلتها، قمنا بعملية المقابلة بنيةً بنيةً، وشكلًا شكلًا، حتى نحصل النتيجة النهائية لذلك التقابل.

رابعًا- وضع تصور مسبق للتنبؤ بالأخطاء أو الصعوبات:

بناء على الإجراءات الثلاثة السابق ذكرها، يمكن التوصل إلى التنبؤ بالأخطاء اللغوية أو الصعوبات المتوقعة لتعلم اللغة الثانية، عن طريق وضع تدرج هرمي للصعوبات، أو عن طريق تطبيق النظرية النفسية واللسانية المتبناة تطبيقًا ذاتيًّا.

الانتقادات التي وجهت إلى التحليل التقابلي:

لم يسلم منهج التحليل التقابلي من الانتقادات التي حاولت توضيح الثغرات المنهجية لتلك الطريقة من الدراسة، وفي الوقت نفسه شكلت هذه الانتقادات حافزا كبيرا للبحث عن منهج آخر لحل مشكلات تعلم اللغة الثانية، وهو ما تمخض فيما بعد عن منهج (تحليل الأخطاء).

وهذا جانب من الانتقادات التي وجهت إلى التحليل التقابلي: ([6])  

  • اعتبار تحليل الأنظمة اللغوية بين اللغتين الأم والثانية الحل الأساس في مواجهة صعوبات تعلم اللغة الثانية، مع أنه ليس إلا جانبا واحدا من جوانب صعوبة تعلمها، فقد عني أصحاب هذا الاتجاه بالفروق اللغوية بين اللغتين وأهملوا الفروق الفردية التي تجعل بعض المتعلمين يتفوقون على غيرهم في تعلم اللغة، وقد تكمن وراء ذلك أسباب داخلية أو خارجية عن النظام اللغوي نفسه.

وقد رد أنصار التحليل التقابلي هذا الانتقاد بأنه لم يقل أحد منهم خصوصا مؤسسي هذا المنهج إن اختلاف النظام اللغوي هو السبب أو المصدر الوحيد لتلك الأخطاء، بل ربما كانت نقطة الضعف عندهم أنهم ادعوا أنه المصدر الرئيس لتلك الأخطاء.

  • القول بأن الاتفاقات بين اللغتين من الأمور المعينة على التعلم، بناء على التسلسل الهرمي للصعوبات، ليس دقيقا كليا، ذلك أن وجوه الشبه القريبة جدا بين لغتين معينتين يراها بعضهم أصعب الأمور تعلما؛ نظرا إلى أن المتعلم يعتبرها متشابهة تشابها كليا، ولذلك فهو لا يعيرها كبير الاهتمام وبالتالي فإنه لا يميز بينها. ومن هنا وجدنا اتجاها آخر يقول: إن وجوه الشبه بين اللغتين هو الأصعب تعلما، بينما يعد من السهولة تعلم الاختلافات بينهما، ويؤيدهم التجريب العملي في بعض الدراسات، مما دعا البعض إلى اقتراح تعديل رئيس، يتمثل في قلب الهرم التسلسلي رأسا على عقب. ويوضحه الشكل رقم (2)
  • صعوبة هذا الإجراء، إذ من الصعب الحصر الشامل لكل أشكال العلاقة بين اللغتين بما يجعلنا لا نظمئن إلى الفروق التي تكشف عنها هذه الدراسة.. إن مما لا ريب فيه أن يعجز الباحث عن إجراء التقابل بين اللغتين في مختلف المجالات (أصوات، مفردات، تراكيب).
  • يعد التحليل التقابلي دراسة تنبؤية والخطورة في مثلها أنها قد تفرض علينا متطلبات معينة عند إعداد المواد التعليمية ثم نواجه بغير ما افترضناه.

ويرد بعضهم على هذا الانتقاد بأنه لم يقل أحد إن بإمكان هذا المنهج أن يتنبأ بجميع الأخطاء، وبمنتهي الثقة والتأكد.

  • أن محاولة وضع اختبارات لتحديد الصعوبات التي يواجهها الدارسون في تعليم لغة أجنبية، في ضوء أسلوب التحليل التقابلي، يعني ضرورة وضع اختبار للناطقين بكل لغة على حدة، كأن نضع اختبارا للناطقين بالإنجليزية عن تعلمهم العربية، واختبارا آخر للناطقين بالفرنسية عن تعلمهم العربية، وهكذا. وذلك أن الصعوبات التي تكشف عنها الدراسات التقابلية تختلف من لغة إلى أخرى.
  • أن التحليل التقابلي يعزز طريقة التدريس التي تركز على المعلم لا على المتعلم الذي يجب أن يكون جوهر العملية التعليمية.

=======================

[1])) ينظر: مناهج تحليل الأخطاء اللغوية (171)

[2])) اللغات الأجنبية تعلمها وتعليمها (89)

[3])) المهارات اللغوية، رشدي طعيمة (300)

[4])) علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية (47، 48)

[5])) ينظر: تعليم العربية لغير الناطقين بها في ضوء اللسانيات التطبيقية (101)

[6])) ينظر: مناهج تحليل الأخطاء اللغوية (173)، المهارات اللغوية (302)، اللغات الأجنبية تعلمها وتعليمها (93 وما بعدها)

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu