حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

تقنيات درامية في قصيدة غَرْناطة لنزار قباني [الحلقة الثانية] بقلم أ.د/ صبري فوزي أبو حسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات، بجامعة الأزهر

الهيكل الحَدَثِي:

هذه القصيدة عشرون بيتًا، بناها نزار من بداية في خمسة أبيات(1-5)، ثم أزمة في اثني عشر بيتًا(6-18)، ثم نهاية مفاجئة في بيتين (19-20). وهاك بيانها:

 جاءت البداية الدرامية في خمسة أبيات، تعرفنا بطرفي القصة، ومكان حدوثها، هي:

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا    ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد

عينان سوداوان في حجريهما     تتوالـد الأبعاد مـن أبعـاد

هل أنت إسبانية ؟ ساءلـتها         قالت: وفي غـرناطة ميلادي

غرناطة؟ وصحت قرون سبعة    في تينـك العينين.. بعد رقاد

وأمـية راياتـها مرفوعـة      وجيـادها موصـولة بجيـاد

ففي هذه الأبيات نرى لقاء بين الشاعر وفتاة، ونرى مكانًا تاريخيًّا جزئيًّا حاضرًا، هو (مدخل الحمراء)، ومكانًا حديثًا يشار إليه، بلفظة(إسبانية)، ثم ذلك المكان التاريخي الفذ(غرناطة)! مما دفع الشاعر أن يستعيد قرون سبعة في نظره، وإن كانت ثمانية في التاريخ(92-897هـ)! وأن يتذكر الحكم الأموي القوي فيها، حيث نلحظ توظيف الاستحضار (أو الاسترجاع أو الخطف خلفًا)،(Flashback)‏ حيث ينقطع التسلسل الزمني أو المكاني الواقعي (للقصة أو المسرحية أو الفيلم)؛ لاستحضار مشهد أو مشاهد ماضية، لتلقي الضوء على موقف من المواقف أو تعلق عليه …وهذا التوظيف ساعد نزارًا ليحسن التخلص إلى (الحدث الصاعد) والمتأزم، في اثني عشر بيتًا، حيث نجد صراعًا رئيسًا بين واقع الفتاة وماضي الشاعر، حيث يقول متعجبًا ومستدعيًا:

ما أغرب التاريخ كيف أعادني     لحفيـدة سـمراء من أحفادي

وجه دمشـقي رأيت خـلاله      أجفان بلقيس وجيـد سعـاد

ورأيت منـزلنا القديم وحجرة       كانـت بها أمي تمد وسـادي

واليـاسمينة رصعـت بنجومها     والبركـة الذهبيـة الإنشـاد

وهنا نجد نزارًا -عبر تقاسيم هذه الحفيدة من سمار وأجفان وجيد- يقصد إلى استعادة (الواقع العربي السوري) الذي يعيشه نزار، حيث: وجه دمشقي، منزلنا القديم، حجرته في بيت أمه، ونبات الياسمين، وبركة ماء! ثم ينتقل إلى بيئة هذه الحفيدة التاريخية، قائلاً: 

ودمشق، أين تكون؟ قلت ترينها        في شعـرك المنساب ..نهر سواد

في وجهك العربي، في الثغر الذي    ما زال مختـزناً شمـوس بلادي

في طيب “جنات العريف” ومائها      في الفل، في الريحـان، في الكباد

حيث يندمج المكان المسؤول عنه (دمشق) بأعضاء الحفيدة السائلة/الإنسان، في تعابير نزار المخاطِب بها: شعرك المنساب، في وجهك العربي، في الثغر، ثم ينتقل إلى بيئته: (شموس بلادي)، ويقدم أدلة على التشابه الحادث بين دمشق العربية وبيئة الحفيدة مكانًا وماء ونباتًا: جنات العريف ومائها، والفل، والريحان، والكباد، ذلك النبات، الذي هو شجر من فصيلة البرتُقاليَّات، ناعم الورق والخَشَب، ثماره كبيرة القَدّ، مستطيلة الشكل، صفراء، طيِّبة الرائحة، دائمة الخضرة صيفا وشتاءً، لا تؤكل بل تُستعمل في صناعة المُرَبَّيات …

وينتقل نزار إلى المنطقة التي يجيدها العلاقة مع الأنثى، حيث يقول:

سارت معي.. والشعر يلهث خلفها      كسنابـل تركـت بغيـر حصاد

يتألـق القـرط الطـويل بجيدها          مثـل الشموع بليلـة الميـلاد..

ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتي     وورائي التاريـخ كـوم رمـاد

إن هذه الحفيدة السمراء فاتنة بشعرها المنساب المنطلق، فاتنة بقرطها الذهبي، فاتنة بجيدها الجميل، ومن ثم كان كالطفل خلفها، تقوده وتدله، ويرى التاريخ آثارًا ترابية! كوم رماد، ثم استدرك قائلاً:

الزخـرفات.. أكاد أسمع نبـضها        والزركشات على السقوف تنادي

قالت: هنا “الحمراء” زهو جدودنا     فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي

أمجادها؟ ومسحت جرحاً نـازفًا   ومسحت جرحًا ثانيًـا بفـؤادي

حيث نجد جمال الفن(الزخرفات/الزركشات) وحيويته، في (أكاد أسمع نبضها)، وفي(تنادي)،

وهذه الحالة الحزينة الباكية جعلته يجمع بين المرض الجسدي(جرح نازف)، والمرض النفسي(جرحًا ثانيا بفؤادي)!

 وكأني به يتناص تناصًّا غير مباشر مع قول أمير الشعراء:

كالخمر من (بابلٍ) سارت (لدارينا

15 – لمَّا نبا الخلدُ نابت عنه نُسْختُه 

تماثلَ الورد (خيريًّا) و(نَسْرِينا

16 – نَسقي ثراهم ثناءً، كلما نُثرت 

دموعُنا نُظِمَتْ منها مراثينا 

17 – كادت عيون قوافينا تحرِّكه 

وكدن يوقظن في الترب السلاطينا

لم نسر من حرم إلا إلى حرم       كالخمر من بابل سارت لدراينا

لما نبا الخلد نابت عنه نسخته     تماثل الورد خيريا ونسرينا

نسقي ثراهم ثناء كلما نثرت        دموعنا نظمت منها مراثينا

كادت عيون قوافينا تحركه          وكدن يوقظن في الترب السلاطينا

كالخمر من (بابلٍ) سارت (لدارينا

15 – لمَّا نبا الخلدُ نابت عنه نُسْختُه 

تماثلَ الورد (خيريًّا) و(نَسْرِينا

16 – نَسقي ثراهم ثناءً، كلما نُثرت 

دموعُنا نُظِمَتْ منها مراثينا 

17 – كادت عيون قوافينا تحرِّكه 

وكدن يوقظن في الترب السلاطينا

فهي آثار طيبة مجيدة أثرت في الشاعرين، ورأيا فيها الحياة تنبض، والأجداد يتحركون!

وتأتي النهاية ختامًا مفتوحًا، وردًّا حاسمًا، حيث يقول:

يا ليت وارثتي الجمـيلة أدركـت       أن الـذين عـنتـهم أجـدادي

  عانـقت فيهـا عنـدما ودعتها         رجلاً يسمـى “طـارق بن زياد

حيث كان نداؤها بوارثته، وإخبارها بأن الاثار التي تفخر بها آثار أجداده، لا سيما القائد الفاتح البربري طارق بن زياد! وإن كنت أرى أنه ختام مفاجئ، وختام ضعيف، ليس فيه منطقية، ولا يتطلبه سياق أو مقام، وأراه راجعًا إلى خواء فكري عن تاريخ الأندلس في عقل نزار ورؤيته، أو أنه بسبب قصده إلى سرعة الإبداع وإيجازه ليكون جمهوريًّا محفليًّا !  

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu