حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الفروق الدلالية عند ابن القيم [19] الختم والطبع.. بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم بكلية الدراسات العليا ووكيل كلية اللغة العربية بالقاهرة السابق

الختم والطبع:

ذكر ابن القيم قول أبي إسحاق الزجاج أن الختم والطبع في اللغة واحد, وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه, فلا يدخله شيء, كما قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )([1]، وكذلك قوله:  (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) [2]، وعقب بقوله “قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذكر ويفترقان في معنى آخر, وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة, فهو تأثير لازم لا يُفارق”[3]. فكأن ابن القيمِّ قد اشتق الطبع من الطبيعة, بمعنى الخليقة والسجية التي جبل عليها الإنسان[4]. لكنك تجد كثيراً من علماء اللغة يساوون بين اللفظين في المعنى, فكلاهما يفسر بمعنى الآخر, هذا ما قاله الخليل وأبو إسحاق ووافقهما فيه جمهور أهل اللغة, يقول الخليل: “ختم يختم ختماً أي طبع فهو خاتم[5]، كما فسروا الطبع بمعنى الختم أيضاً, يقول الخليل: “والطبع: الختم على الشيء … والطابع الخاتم”[6].

والمتأمل للسياق القرآني يرى أن كلمتي الختم والطبع قد وردتا في سياق الكلام على أهل الكفر فترى المعنى فيهما واحد, فقد ورد في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [7] وفي قوله تعالى (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا )[8] وفي قوله تعالى (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ )[9] وفي قوله تعالى: (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ )[10] وفي قوله تعالى: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ )[11].

كل ذلك دعا علماء اللغة إلى المساواة بينهما في المعنى, لأنك لا تكاد تجد ذلك الفرق الذي ذكره ابن القيمِّ في سياق النص القرآني. لكن ابن فارس وهو أحد اللغويين يرى أن مادة “خ ت م” أصل واحد, وهو بلوغ آخر الشيء, وجعل منه خَتْمُ العمل وخَتْمُ القارئ السورة، كما جعل الختم والطبع من هذا الباب, لأن الطبع على الشيء لا يكون إلا بعد بلوغ آخره في الأحراز, ثم قال: والخاتم مشتق منه, لأن به يختم[12], ومنه قوله أيضاً في مادة “طبع”، “ومن ذلك طبع الله على قلب الكافر, كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور”[13].

أما المفسرون فيرى بعضهم أن الختم بمعنى التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء, ومنه ختم الكتاب والباب حتى لا يصل إلي ما فيه ولا يوضع فيه غير ما فيه[14], ويراه بعضهم سَدّاً وغَلْقّاً على الشيء مع وسْمِهِ بعلامة ونحوها ليمنع ذلك من الفتح, يقول ابن عاشور: “والختم: حقيقته السَّدُّ على الإناء والغلق على الكتاب بطين ونحوه مع وضع علامة مرسومة في خاتم ليمنع ذلك من فتح المختوم, فإذا علم صاحبه أنه فتح بالفساد يظهر في أثر النقش”[15]. ويراه فريق ثالث: الوسم بطابع وغيره[16]. ونقل الشوكاني في فتح القدير عن ابن جرير أن الختم هو الران[17]. ويجعل الزمخشري “الختم والكتم أخوين؛ لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه أحد يطلع عليه”[18].

ويفّصِّل الراغب في تفسير اللفظين من خلال السياقات المتعددة التي ترد عليهما, فالختم والطبع يقال على وجهين: مصدر ختمت وطبعت, وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم والطابع, والثاني: الأثر الحاصل عن النقش. ثم بين أنه قد يتجوز في ذلك فيستعملان بمعنى الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتباراً بما يحصل من المنع بالختم على الكُتُب والأبواب, وجاء على ذلك قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ )[19] وقوله تعالى (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ )[20] كما يتجوز أيضاً فيستعملان في تحصيل أثر شيء اعتباراً بالنقش الحاصل, وتارة يعتبر منه بلوغ الآخر, ومنه قيل: ختمت القرآن، أي انتهيت إلى آخره, كما يكون نهاية العناد والتناهي في اعتقاد الباطل وعدم الإنصات لصوت الحق استغراق في الضلالة وحب الباطل وعدم التفات إلى الحق، فيأتي الطبع والختم في مثل قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )[21].

لكنه في موضع آخر يرى أن الطبع أعم من الختم, وأخص من النقش[22]، ولم يبين علة ذلك. لكن لغوياً آخر كأبي هلال يرى أن الختم ينبئ عن إتمام الشيء وقطع فعله وعمله, تقول ختمت القرآن أي أتممت حفظه … وقطعت قراءته, أما الطبع فهو أثر يثبت في المطبوع ويلزمه, فهو يفيد من معنى الثبات واللزوم ما لا يفيده الختم، ولهذا قيل: طبع الدرهم طبعاً, وهو الأثر الذي يؤثره فيه فلا يزول عنه”[23]. وبالتأمل في ورود المادتين في القرآن الكريم نجد أن مادة “خ ت م” قد وردت فعلاً – كما سبق – ووردت مصدراً مثل قوله تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )[24] كما وردت اسم مفعول في قوله تعالى (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ)[25] ووردت اسم فاعل في قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)[26]. أما مادة “ط ب ع” فلم يستعمل منها إلا الفعل فقط، ومشتقات الفعل في الأولى تدل كلها على المدح في حين يدل الفعل ذاته “ختم” على الذم كما يدل الفعل طبع, ومن هنا فرق بينهما أحد الباحثين بهذا الملمح[27]. وعلى ذلك فالطبع عنده أقوى من الختم؛ لاختصاصه بالشر دون الخير، لكن الفارق الذي ذكره ابن القيم وهو كون الطبع سجية لازمة هو الذي يميز المادتين من بعضهما, على أن إحداهما قد تنوب عن الأخرى في سياقات متعددة دون أن تخل بالتركيب ودلالته.

======================

[1] محمد آية 24

[2] التوبة آية 87

[3] الضوء المنير 4/188

[4] اللسان “طبع”

[5] العين 4/241 “ختم” واللسان القاموس “ختم”

[6] العين 2/23 واللسان والقاموس “طبع”

[7] الجاثية آية 23

[8] النساء آية 155

[9] الأعراف آية 101

[10] يونس آية 74

[11] الأعراف آية 100

[12] المقاييس “ختم” 2/245

[13] السابق 3/438

[14] الجامع لأحكام القرآن 1/203 وهذا عين ما نقله ابن القيم عن أبي إسحاق ينظر الضوء المنير 4/288

[15] التحرير والتنوير 3/438

[16] الدر المصون 1/113

[17] فتح القدير 1/52

[18] الكشاف 1/49 والكليات ص 431

[19] البقرة آية 7

[20] الجاثية آية 23

[21] المفردات ص 149 “ختم” والنحل آية 108

[22] السابق ص 304

[23] الفروق اللغوية ص 72

[24] المطففين آية 26

[25] المطففين آية 25

[26] الأحزاب آية 40

[27] معجم الفروق الدلالية في القرآن الكريم، د. محمد محمد داود ص 233 دار غريب للطبع والنشر 2008

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu