حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

تعدد الجمع للمفرد الواحد في القرآن الكريم [الحلقة الثالثة] بقلم د. حاتم أبو سعيدة

مدرس أصول اللغة بكلية اللغة العربية بالمنوفية جامعة الأزهر

(فتى، فتية، وفتيان)

الدلالة المحورية والمعجمية والسياق القرآني للفظ مفردا:

الفتى لفظ مشتق أو مأخوذ من مادة(ف ت ي) التي تتمحور حول معنى طراوة الشيء وجِدَّته،يقول ابن فارس:”الْفَاءُ وَالتَّاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى طَرَاوَةٍ وَجِدَّةٍ، وَالْآخَرُ عَلَى تَبْيِينِ حُكْمٍ. الْفَتِيُّ: الطَّرِيُّ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْفَتَى مِنَ النَّاسِ: وَاحِدُ الْفِتْيَانِ.”([1]) والفتى بمعنى الشاب من هذا المعنى لحداثة سنه وقوته، فكأنه ما زال في نضارة الطراوة وجدة الشباب أي قوته.

وجعلت الدراسة الحديث المعنى المحوري لهذه المادة مرتبطا بعض الشيء بهذه المرحلة العمرية، يقول الدكتور جبل: “المعنى المحوري: مفارقة الحي طور طفولته أو حداثته بالغا طور شبابه كما في الفتيان والأفتاء.”([2])

وأما عن الدلالة المعجمية، فقد أطلقه العلماء على الشباب، وكذلك على العبيد أو الخدم، يقول ابن سيده:” الفَتاءُ: الشَّبابُ. والفَتَى الشّابُّ.”([3]) المطّرزي:” (الْفَتَى) مِنْ النَّاسِ الشَّابُّ الْقَوِيُّ الْحَدَثُ.”([4]) ويطلق الفتي على العبد مجازا، يقول الفيومي:” وَالْفَتَى الْعَبْدُ وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ فِتْيَةٌ وَفِي الْكَثْرَةِ فِتْيَانٌ … وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لِلشَّابِّ الْحَدَثِ فَتًى ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِلْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ شَيْخًا مَجَازًا تَسْمِيَةٌ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ.”([5])

وسياق استعمال اللفظ في القرآن الكريم قد حفظ هاتين الدلالتين، فعن معنى الشباب، يقول ابن أبي حاتم:” عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا بعث الله نبيًا إلا وهو شاب، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وقرأ: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لفتاه، إنهم فتية آمنوا بربهم.”([6]) وعن معنى الخدم أو العبيد يقول ابن عطية:” إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف: 60] وأصل «الفتى» في اللغة الشاب، ولكن لما كان جل الخدمة شبابا استعير لهم اسم الفتى.”([7])، ويقول الفخر الرازي:”رَوَى عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ قَالَ يَعْنِي عَبْدَهُ، قَالَ الْقَفَّالُ وَاللُّغَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي».”([8]) ويقول ابن منظور:” وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى صاحبَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي صَحِبَهُ فِي الْبَحْرِ فَتاه فَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ، قَالَ: لأَنه كَانَ يَخْدِمُهُ فِي سَفَرِهِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ: آتِنا غَداءَنا.”([9])؛ وبهذا تؤكد الدلالة السياقية للفظ في القرآن الكريم على الدلالة المعجمية للفظ عند علماء اللغة.

الدلالة الصرفية والسياق القرآني للفظ مجموعا:

لهذا اللفظ أكثر من جمع يرد عليه، يقول الخليل:” وجماعة الفَتَى فِتْيَةَ وفِتيان.”([10]) الحربي:”يُقَالُ لِلشَّابِّ فَتًى: وَالْجَمِيعُ فِتْيَانٌ، وَالْقَلِيلُ فِتْيَةٌ.”([11]) وبقول الفيومي:” وَالْفَتَى الْعَبْدُ وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ فِتْيَةٌ وَفِي الْكَثْرَةِ فِتْيَانٌ.”([12]) وله جموع أخرى، وهي: وفِتْوَةٌ وفُتُوٌّ وفُتِيٌّ.([13])

وقد استعمل القرآن الكريم من هذه الجموع جمعين، وهما فتية، بوزن فِعْلَة، وهو ومن جموع القلة.([14]) وفتيان بوزن فِعْلان، وهو من جموع الكثرة. ([15])

وتتجلى عبقرية القرآن الكريم في وضع كل جمع من الجمعين في سياق يراعي فيه الدلالة المنبثقة من الوزن الصرفي لكل جمع من الجمعين، والمتمثلة في مراعاة معنى القلة والكثرة في كل استعمال، فقد استعمل لفظ الفتية في موضعين، وهما قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [سورة الكهف:10] وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [سورة الكهف:13]

ففي هذين السياقين يناسبه جمع القلة، وذلك أنهم كانوا دون العشرة، كما حكى القرآن الكريم في قوله تعالى”سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22). وكما نصت على ذلك التفاسير.([16])

بينما استعمل لفظ الفتيان في سياق قوله تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [سورة يوسف:62]

وقد اختلف العلماء في هذا الموضع، فالبعض يرى أن جمع الكثرة هنا بمعنى جمع القلة، فالفتيان بمعنى الفتية، فهما لغتان بمعنى واحد، يقول الزجاج:” والفتيان والفتية المماليك في هذا الموضع.”([17]) ويقول الثعلبي: “قرأ الحسن وحميد ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، لِفِتْيانِهِ بالألف والنون وهو اختيار أبي عبيدة، وقال: هي في مصحف عبد الله كذلك، وقرأ الباقون لفتيته بالتاء من غير ألف وهما لغتان مثل الصبيان والصبية.”([18])

والبعض رأى أن معنى القلة هنا أنسب للسياق، مكي بن أبي طالب:” ثم قال تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} أي: قال يوسف لغلمانه و “فتيته “: أنَسْبُ لأنه للعدد القليل، و ” فتيان “: حسن.([19])

والبعض فرّق بين الجمعين، ووجَّه لمعنى القلة والكثرة من غير ترجيح، يقول ابن عطية: “وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «لفتيته» وقرأ حمزة والكسائي: «لفتيانه» ، واختلف عن عاصم، ففتيان للكثرة- على مراعاة المأمورين- وفتية للقلة- على مراعاة المتناولين وهم الخدمة.([20]) أي الخدم الذين تناولوا الكيل لهم.

إلا أن الباحث يرجح أنه هنا للكثرة فقط، وذلك لمناسبته للمقام والسياق، فأما المقام فهذا مقام من جعله الملك على خزائن الأرض، وشأن من كان هذا مكانه أن يكون له من الغلمان والخدم الكثير مما لا تتناوله أعداد القلة، وأما عن السياق، فقد وقع لفظ الفتيان في سياق جمع الكثرة، وهو رحال، يقول الطبري:” قَوْلُهُ: ” ﱩ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ﱨ [يوسف: 62] أَيْ لِغِلْمَانِهِ: { اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ } [يوسف: 62] يَقُولُ: اجْعَلُوا أَثْمَانَ الطَّعَامِ الَّذِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُمْ فِي رِحَالِهِمْ ” وَالرِّحَالُ: جَمْعُ رَحْلٍ، وَذَلِكَ جَمْعُ الْكَثِيرِ، فَأَمَّا الْقَلِيلُ مِنَ الْجَمْعِ مِنْهُ فَهُوَ أَرْحُلٌ.([21])؛ وهذا يناسبه أن يكون هو الآخر على الكثرة.

ومن خلال ما سبق ظهر   ما كان للسياق  من دور أدى استعمال جمع في موضع، وجمع في موضع آخر.

===========================

([1])مقاييس اللغة 4/474.

([2])المعجم الاشتقاقي د/ جبل 1620.

([3]) المحكم 9/522.

([4]) المغرب في ترتيب المعرب 351.

([5]) المصباح المنير 2/462.

([6]) تفسير ابن أبي حاتم الرازي7/2350 .

([7]) المحرر الوجيز 3/237 .

([8]) مفاتيح الغيب21/478 .

([9]) لسان العرب15/147 .

([10]) العين 8/137.

([11]) غريب الحديث 3/944.

([12]) المصباح المنير 2/462.

([13]) ينظر القاموس المحيط 1/1320، وتاج العروس 39/209.

([14]) ينظر شذا العرف 71.

([15]) ينظر شذا العرف 75.

([16]) ينظر الكشف والبيان للثعلبي 6/162، والنكت والعيون للماوردي3/297، والتفسير الوسيط للواحدي 3/182.

([17]) معاني القرآن وإعرابه 3/117.

([18]) الكشف والبيان 5/235.

([19]) الهداية إلى بلوغ النهاية 5/3594.

([20]) المحرر الوجيز 3/259.

([21]) الجامع لأحكام القرآن 13/227.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu