حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الخطاب القصدي وآلياته التواصلية في أسلوب العطف (نموذج الإمتاع والمؤانسة) [الحلقة التاسعة] بقلم أ.د/ حسين كتانة

أستاذ البلاغة العربية في جامعة آل البيت - الأردن

4- نقد الأخلاق وتتبع الأحوال: وهي مناسبة في خطاب العطف نفذ التوحيدي من خلالها إلى ربط موضوع المؤانسة بالأعلام الذين استشهد بهم، فذكر أحوالهم ونقد أخلاقهم في ظواهر مختلفة نلمس تجلياتها، فيما استعمله من معاني عطفية متنوعة تظهر التجربة الطويلة في مخالطة الرجال، وكثرة التقلب في الأمصار، والتوسط في المجامع، واستماع فنون الأقوال. وهنا نجد السمة الغالبة في هذا النوع من العطف ادعاء صاحبه للحكمة واليقظة والمعرفة والعلم، حيث يكون مرة ناصحا صادقا، وتارة مؤنبا قادحا. وفي الحالتين نفسهما يكون التبرير عن حكمة وبصيرة “قال الوزير: ما البصير؟ قلت: لحظ النفس الأمور. قال: فما الحكمة؟ قلت: بلوغ القاصية من ذلك اللحظ. قال: فما التجربة؟ قلت: كمال النفس بلحاظ مالها. قال: هذا حسن”[1].

فالأخلاق في منظور التوحيدي؛ مجموعة من المعاني المتلاحقة التي يعطف بعضها على بعض إما مدحا أوذما. ولاغرابة إن كانت مثارا للاستغراب وطول النظر؛ “ما أعجب أمر العرب، تأمر بالحلم مرة، والكظم والصبر مرة، وتحث بعد ذلك على الانتصاف والثأر، وتذم السفه وقمع العدو، وهكذا شأنها في جميع الأخلاق…وليس في جميع الأخلاق شيء يحسن في كل زمان وفي كل مكان، ومع كل إنسان، بل لكل ذلك وقت وحين وأوان”[2]. ولا عجب أن يلاحظ منه ابن العميد تمكنه في هذا الجانب، ومعرفته بأوصاف الرجال، وما يحمله كلامه من دقة المعاني المعطوفة، التي تعبر عن التبصر بمظاهر النقد الأخلاقي. ولهذا ألح عليه في مؤانسته أن يذكر له من كل واحد ما لاح لعينه، وتجلى لبصيرته، وصار له بصورة في نفسه. وقد انصاع التوحيدي لهذا الأمر وقَبِل فقال:”فإني أخدم بما عندي، وأبلغ فيه أقصى جهدي” . فذكر مجموعة من الأوصاف الخلقية لمجموعة من الأعلام كأبي سليمان المنطقي، وابن الخمار، وأبوبكر القومسي، وأبو علي بن السمح، وأحمد بن محمد مسكويه الخازن، ونظيف النفس الرومي، ويحيى بن عدي، وعيسى بن علي الجراح. وكلهم من رجالات القرن الهجري الرابع ، وقد رتب أسماءهم في ميزان النقد الأخلاقي حسب الأفضال التي رسمها بمعاني عطفه التي ذكر منها:”أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقهم نظرا، وأقعرهم غوصا، وأصفاهم فكرا، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر؛ مع تقطع في العبارة، ولُكنة ناشئة في العجمة وقلة نظر في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز”[3].

 وحينما فرغ التوحيدي من خطابه في معاني العطف الموصوفة لكل رجل من هؤلاء، اقتنع الوزير بمؤانسته فقال له: “ماقصرت في وصف هذه الطائفة، وتقريب البغية التي كانت داخلة في نفسي منهم.”[4] وهو دليل على مبعث الطمأنينة التي يحملها خطاب العطف في النقد الأخلاقي عند التوحيدي فيما تضمنه من أوصاف مميزة للأعلام قبل أن يؤنس بعلومهم.

فإذا كان أصحاب السير، وأهل الجرح والتعديل في علوم الحديث يعتدون بهذا المنهج في الضبط والاتقان، في نقل الرواية الصحيحة انطلاقا من المعرفة الشخصية برواتها، فإن التوحيدي تحرى في خطاب العطف هذا المبدأ، وتحرج من الغمز أو اللمز لأحد من الذين وضعهم في ميزان عطفه. لذلك نجده يشير لهذا المبدأ الأخلاقي بقوله:” سمعت أشياء، ولست أحب أن أسم نفسي بنقل الحديث وإعادة الأحوال فأكون غامزا وساعيا ومفسدا.”[5] إلا أن أنيسه ابن العميد لم يترك المعاني العطفية لأبي حيان تقف عند الأخلاق الفاضلة فحسب، بل كان دافعا ومشجعا إلى إباحة ذكر الأوصاف القدحية التي يجد معانيها أجود في الاستئناس، وأليق بالنصح في بيان الأحوال والرشد إليها. وفي هذا الجانب، نجده ينقل عنه توسله برقة الراغب في سماع الأوصاف المجروحة بقوله : “معاذ الله من هذا، إنما تدل على رشد وخير، وتُضِلّ عن غيّ وسُوء، وهذا يلزم كل من آثر الصلاح الخاص والعام لنفسه وللناس، واعتقد الشفقة، وحث على قبول النصيحة؛ والنبي (صلى الله عليه وسلم) قد سمع مثل هذا وسأل عنه، وكذلك الخلفاء بعده، وكل أحد محتاج إلى معرفة الأحوال إذا رجع إلى مرتبة عالية أو محطوطة.”[6] فكان هذا عونا للتوحيدي على ذكر الأعلام الذين انتقد أخلاقهم وكشف مواطن القدح فيهم، عكس ماقدمه للفريق الأول. ومن هؤلاء: ابن شاهويه، وأبو سعيد بهرام بن أزدشير، وابن مكيخا، وابن الطاهر، وابن برمويه، وابن عبدان، وكلهم كانوا من أهل السلطان. ومما وصفهم به في ثنايا عطفه:”أما ابن شاهويه فشيخ إزراء، وصاحب محرقة، وكذب ظاهر، كثير الإبهام، شديد التمويه، لايرجع إلى ود صادق، ولا إلى عقد صحيح وعهد محفوظ؛ وإنما كان الماضي يقربه لغرض كان له فيه من جهة هؤلاء المخربين القرامطة، وكان أيضا مذموم الهيئة، فكان لانبس إلا بما يقويه ويحرس حاله، واليوم هو رخي اللّبَب، جاذب لكل سبب، وليس هناك كفاية ولا صيانة، ولا ديانة ولا مروءة؛ وبعد فهو شؤوم نكد، ثقيل الروح، شديد البهت، قوله الإفساد وعادته تأجيل المَهنَأ، والشماتة بالعائر، والتشفي من المنكوب”[7].

فالناظر في الآلة الواصفة للقصد في خطاب العطف الذي استعمله التوحيدي يدرك أنه قصد الوصول إلى أسرار الإنسان وبدائع أخلاقه التي لاتكاد تنتهي، وعجائبها التي لاتكاد تنقضي. ومن الغرائب التي قد توقف المتأمل في تركيبة عطفه في الأوصاف القدحية تلاحق النهي، والاستدراك المتتالي للكلمات التي يتوسطها المد الثقيل (صيانة-ديانة-مروءة-شؤوم-روح..) وهي كلمات يفهم من خلالها الدلالات التغليبية لجانب العيوب على الصفات الحميدة. وفي هذا الجانب نلمس النزعة الجاحظية التي أثرت في خطاب العطف لدى أبي حيان من خلال المعنى والمبنى، والوضوح والصفاء، والدقة والطرافة، والبعد عن التكلف المصطنع، وكل ذلك في لغة استثمر التوحيدي “الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي بين حروفها، والمسافة التي بين مخارجها، والمعادلة التي في أمثلتها، والمساواة التي لاتجحد في أبنيتها..”[8]

==================

[1]-نفسه، 2/183.

[2]-نفسه، 3/350.

[3]-نفسه، 1/31.

[4]-نفسه، 1/34.

[5]-نفسه، 1/37.

[6]-نفسه، 1/38.

[7]-نفسه، 1/38.

[8]-نفسه، 1/61.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu