حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

كتابة القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه بقلم أ.د/ عبد التواب الأكرت

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم السابق بكلية اللغة العربية بالقاهرة ومقرر اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة بجامعة الأزهر

ثالثًا : كتابة القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه:

تمت كتابة القرآن الكريم في مصحف واحد في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وسمى بالمصحف العثماني، أو المصحف الإمام، والسبب في ذلك كما ذكر القرطبي: «أن الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان، واشتد الأمر في ذلك، وعظم اختلافهم وتشبثهم، ووقع بين الشام والعراق اختلاف القراءة» ([1]).

وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن شهاب، أن أنس بن مالك حدَّثه «أن حُذَيفة بن اليمان قَدَم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدْرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصه أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، ثم أمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرَّهْط القرشيين الثلاثة ([2]):

إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ثم ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق» ([3]).

فالسبب الذي جعل أمير المؤمنين عثمان يأمر بهذا العمل، هو كثرة الفتوحات الإسلامية وانتشار قراءة القرآن في الأمصار المفتوحة، فزاد اختلاف المسلمين في وجوه القراءة، وأنهم لا يقرءُون على أصل فطرتهم اللغوية، كما كان العرب يقرءُون القرآن بلحونهم، فأدرك أمير المؤمنين عثمان – رضي الله عنه – أمر هذا الاختلاف، وحسم خطره؛ لأن الاختلاف في كتاب الله يؤدي إلى مخالفة فيه، فأمر زيد بن ثابت ومن معه بنسخ المصحف، واقتصر على لغة قريش دون غيرها في النسخ، وأهمل روايات الآحاد، وفي هذا دليل على أنهم جمعوا القرآن المنزل من غير زيادة ولا نقص.

والفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان. قال ابن التين وغيرُه:

«إن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حَمَلَتِه؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وافقهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرءُوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك إلى تخطئة بعض، فخشى من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك المصاحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره، واقتصر من اللغات على لغة قريش، محتجًّا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد «وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعًا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر» ([4]), فأراد عثمان أن يجمع الناس على القراءات الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك ما ليس كذلك تجنبًا لوقوع اختلاف بين الناس.

ولم يأمر أمير المؤمنين عثمان بهذا العمل من تلقاء نفسه، ولكنه «جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام، وشاورهم في ذلك؛ فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت في القراءات المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واطراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان سديدًا موفقًا» ([5]).

وما أجمل ما قام به عثمان ـ رضي الله عنه ـ فقد حمل المسلمين على القراءة بوجه حتى لا يقع خلاف بينهم، وحفظ المصحف من تسرب بعض الشبهات إليه على مِن يأتي نبعد؛ لأن المصاحف قبل ذلك كانت تشتمل على أشياءَ وتفسيرات ليست من القرآن، ولم يكن النقط بنوعيه (الضبط والإعجام) معروفًا في هذا الوقت، فقد كانت المصاحف خالية منهما.

ومما يدل على أن ما قام به عثمان عملًا جليلًا، أن هذا العمل قد حاز القبول والإعجاب والاستحسان، ولم يكن هذا العمل من تلقاء نفسه، وإنما كان بإجماع الصحابة، ويؤيد ذلك كلام القرطبي السابق، وكذلك ما روي «بسند صحيح من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي بن أبي طالب: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا ، فوالله ما فعل الذي في المصاحف إلا عن ملأ منا. قال: ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضكم يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا لا يكون إلا كفرًا. قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت» ([6]).

وعلى هذا الصنيع الذي أمر عثمان – رضي الله عنه – بعمله، قضى على الخلاف الذي كان ناشئًا بين المسلمين في بعض الأمصار، كما أحدث توحدًا لغويًّا في وجوه القراءة التي تتلى، مقتصرًا على لسان قريش دون غيرها من اللغات الأخرى في كتابة المصحف، ولكنه رخَّص في القراءة بغير لسان قريش، تيسيرًا وتخفيفًا منه على لسان المتعلمين.

==============================

([1]) الجامع لأحكام القرآن: 1/51.

([2]) يعني سعيد أو عبد الله وعبد الرحمن؛ لأن سعيدًا أموي، وعبد الله أسدي، وعبد الرحمن مخزومي، وكلها من بطون قريش: فتح الباري: 9/20.

([3]) السابق: 9/11، البرهان: 1/236.

([4]) الإتقان: 1/79.

([5]) الجامع لأحكام القرآن: 1/52.

([6]) إرشاد الساري للقسطلاني: 7/448, الإتقان: 1/79.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu