لسانيات النص…المفهوم والغاية بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب
أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب
لسانيَّاتُ النصِّ أو “علمُ النصِّ” أو “علمُ اللغةِ النصيُّ” علمٌ معرفيُّ جديد ظهرت ملامحُه في منتصف القرن العشرين، تميَّزَ هذا العلمُ بالتداخل المعرفيِّ بين العلوم، بعضُها لغوي كالأدب والبلاغة والنحو والصرف والعروض، وبعضُها غيرُ لغوي، كعلم النفس والاجتماع والفلسفة والمنطق والتاريخ والإنسان(الإنثربولوجي)([1]).
ونقتصر في هذا المقال على مصطلح “لسانيَّات النصِّ” دون “علمِ النصِّ” أو “علم اللغة النصي”؛ لأنَّه أبرُّ باللغة وأقربُ في الدلالة على المقصود؛ حيث يهتم بدراسة النصِّ باعتباره الوحدةَ اللغويةَ الكبرى، والبحثِ في عناصر ترابطه وتماسكه وأنماطه ودور المشاركين في النصِّ (المرسل والمتلقي)؛ ولذا يُعدُّ حلقةً من حلقات التطور الممنهج في دراسة اللغة، وطريقةً جديدةً من طرائق التعامل مع الظاهرة اللغوية…. ويقوم هذا المنهج على دراسة العلاقات الداخليَّة والخارجيَّة للنصِّ، حيث تُعدُّ دراسةُ العلاقات النصيِّة بين الجمل هي جوهر علم النص؛ وذلك بتجاوز إطار الجملة في التحليل إلى فضاء النص، والعمل على كشف المحتوى الكليِّ للنصِّ، وبيان أوجه التفاعل الدخلي للنص بعيدًا عن النظرة الجزئية المتمركزة حول الجملة، ولا يعني ذلك تجاهل النظر إلى الجملة، كيف وهي المكون والوحدة الصغرى للنصِّ؟! وإنَّما دراسة هذه الجملة من خلال ربطها بسياقها وعلاقاتها بأخواتها من الجمل الأخرى.
مفهوم النص في المعاجم العربية
مادة (ن-ص- ص) في المعاجم العربية، قد تطلق ويراد بها معنى “الرفع، أو الوضوح والظهور، أو التحريك، أو الاستقصاء وبلوغ أقصى الشيء ومنتهاه”([2]).
وفي عُرف الأصوليين يُطلق النصُّ ويراد به عندهم: اللفظُ المحكمُ أو الظاهرُ، أو ما لا يقبل التأويل([3])، وكلها أوصاف للنصِّ القرآنيِّ تدور معانيها حول الدلالة القطعية مقابلة للنصِّ المتشابه.
مفهوم النص في المعاجم الغربية
أمَّا النصُّ”في المعجم الفرنسي(texte) فهو مأخوذ من مادة (textus) اللاتينية التي تعني النسيج،…كما تعني منذ العصر الإمبراطوري ترابطَ حكايةٍ أو نصٍّ …والذي نلاحظه في المعنى اللغوي لمادة(texte) أنَّها تدلُّ دلالةً صريحةً على التماسك والترابط والتلاحم بين أجزاء النصِّ وذلك من خلال معنى كلمة”النسـيج” التي تشير إلى الانسجام والتضامِّ والتماسك بين مكونات الشيء المنسوج ماديًّا، كما تشير معنويًّا –أيضًا- إلى علاقات الترابط والتماسك من خلال حبك أجزاء الحكاية.
وهكذا نرى “أنّ كلمةَ ” نصٍّ” في التعريف الفرنسي أقربُ في الدلالة على مفهوم التماسك النصي؛ فهي تدلُّ على الترابط بين أجزاء الحكاية، كما أنّ كلمة النسيج- المقابل المعجمي لمادة نص- في أبسط معانيها تدلُّ على الانسجام والتماسك والترابط والتناسق بين خيوط المنسوج؛ ذلك المنسوج الذي يُشكِّلُ قيمةً فنيةً ترتفع جمالياتها كلما ازداد تماسك خيوطها”([4]).
وبالوقوف مع المعنى اللغويِّ في الأصل اللاتيني لكلمة نصٍّ وهو: النسج ([5]) والإحكام والاتساق يتضح لنا وجه التمايز بين البلاغة العربية واللسانيات النصيَّة، حيث ترتب على اختلاف الأصل المعجمي اختلافٌ في تناول ومعالجة العمل الأدبي، وهي معالحة سجلت فيه اللسانيات النصيَّة حضورًا ملحوظًا في النظر إلى النصِّ على أنه وحدة واحدة، وما تستلزمه تلك المعالجة من تجاوز النظرة الضيقة المتمثلة في البيت الواحد في الإبداع الشعري أو الجملة في التأليف النثري للوصول إلى بيان المحتوى الكليِّ للنصِّ، والكشف عن أوجه التفاعل الداخلي.
أمَّا عن الدلالة الاصطلاحيَّة لدى علماء النصِّ فهي قريبة من الدلالة المعجمية، من حيث التماسك والترابط، ولعلَّ من أهمِّ هذه التعريفات الاصطلاحية الأكثر شيوعًا لدى علماء النصِّ تعريفَ (دي بوجراند) الذي يرى أنّ النصَّ عبارة عن” حدثٌ تواصلي يلزَم من كونه نصًّا أنْ تتوافر له سبعة معايير مجتمعة، وهذه المعايير هي:
1-السبكُ (الاتِّساق، أو التضام أو الربط) (cohesion)، 2- الحبكُ (الانسجام أو الالتحام، أو التقارن) (coherence) 3- القصدُ (Intentionality) 4- المقاميةُ، أو الموقفيةُ (Situationality)5- الإعلاميةُ (Informativity) 6- المقبوليةُ (Acceptability) 7- والتناصُّ (Interuality).
وهذه المعاييرُ السبعةُ لا بدَّ من توافرها مجتمعةً في أيِّ نصٍّ لكي يتسم بالنصِّية، وإذا فُقِد أحدها في النصِّ خرج عن حدود النصِّية، الذي استقرَّ عليه علماءُ النصِّ مؤخرًا([6]).
وكما أنَّ دلالة النصِّ على معاني النسج والإحكام والاتساق لا وجود لها في المعاجم العربية، فكذلك لا وجود لمفهومه الاصطلاحي أيضًا- الذي حدَّده دي بوجراند- في الدراسات البلاغيَّة والنقديَّة القديمة، فهو من المصطلحات الوافدة إلينا من الغرب كـ” الأسلوب” و”الخطاب” تمامًا، بل لربما كانت بعضُ المصطلحات اللغوية الأخرى أكثر حضورًا منه، سواء في ذلك ما دلَّ على أجناسه؛ كالشعر، والنثر، والخطابة، أو ما اقترب منه وضعًا واستعمالاً كمصطلح (الخطاب) و(القول) و(الحديث) و (اللفظ) و(الرسالة)([7]).
ومن هنا نظرتْ اللسانيَّات النصيَّة إلى “وحدة البيت” نظرةً تختلف عن البلاغة العربية، ففي الوقت الذي أثنى فيه البلاغيون والنقاد على البيت الذي يستقلُّ بمعناه دون عجزه، وجعلوه من الأبيات الغُرِّ المقدَّمة في الجودة والصنعة على حدِّ تعبير ” ثعلب” في كتابه(قواعد الشعر)، بينما الأبيات التي لايكتمل معناها إلَّا مع غيرها تكون أدنى منزلةً وأقلَّ جودةً وأبعدها عن عمود البلاغة، نجد الدراسات اللسانيَّة تُعلي من شأن الأبيات المعيبة في التراث البلاغي بدعوى التماسك والترابط، وتذم الأبياتَ المستقلةَ بمعناها بدعوى التفتت والتشتت والنظرة الجزئية، وفي الوقت الذي فضَّل فيه النقاد والبلاغيون الشاعرَ الذي يأتي بالمعنى في البيت الواحد على الشاعر الذي يأتي به في البيتين بدعوى الإيجاز والاختصار، نجد اللسانيَّات النصيَّة تُعلي من شأن الشاعر الذي يجعل من القصيدة كلها معنى واحدًا تدور حوله الأبياتُ، حنى تصبح القصيدة كلاً لا يستغني عن جميع أجزائه.
====================
[1]ـــ ينظر في ذلك “الاتساق النصي في التراث العربي” تأليف أ. نعيمة سعدية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد خيضر- بسكرة- الجزائر- مجلة كلية الآداب – العدد الخامس- 2009، وينظر كذلك “في اللسانيات ونحو النص ” تأليف دكتور / إبراهيم خليل – جامعة الإسكندرية.وينظر السبك في العربية المعاصرة بين المنطوق والمتكوب-تأليف/ محمد سالم أبو عفرة- مكتبة الآداب- القاهرة- الطبعة الأولى- 1431هـ/ 2010م.
[2]ـــ لسان العرب لابن منظور- دار إحياء التراث العربي- بيروت – لبنان- الطبعة الثالثة – 1419ه/ ـ1999م- مادة(ن.ص.ص)، المجلد14، ص162.
[3]ـــ مبادئ الوصول إلى علم الأصول- للعلامة الحلي أبي منصور جمال الدين الحسن بن يوسف-تحقيق:عبدالحسين البقال، ط٣، الإعلام الإسلامي- ١٤٠٤،. ص65 بتصرف.
[4]ـــ ينظر “نحو لسانيات نصية عربية” للدكتور/ رشيد عمران – شبكة التواصل الاجتماعي- تاريخ الدخول 26/8/2016.
[5]ـــ نسيج النص- تأليف: الأزهر الزناد- طبعة المركزالثقافي العربي- بيروت،١٩٩٣م- ص12.
[6]ـــ ينظر في ذلك: الاتساق النصي في التراث العربي- تأليف دكتورة/ نعيمة سعدية – مجلة الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية- جامعة محمد خيضر – بسكرة – الجزائر- العدد الخامس – 200، وينظر كذلك: التماسك النصي بين التراث والغرب- تأليف/ تارا فرهاد شاكر- جامعة صلاح الدين بأربيل- كلية اللغات، وينظر كذلك:”نحو لسانيات نصية عربية” للدكتور/ رشيد عمران – شبكة التواصل الاجتماعي- تاريخ الدخول 26/8/2016. وينظر كذلك”في اللسانيات ونحو النص” تأليف دكتور/ إبراهيم خليل – جامعة الإسكندرية-
[7]ـــ ينظر في ذلك “المصطلحات الأساسية في لسانيات النص وتحليل الخطاب”- تأليف دكتور/ نعمان بوقرة – عالم الكتب الحديث- الأردن- ط الأولى- 1429ه/ 2009م، ص22 بتصرف.
========================
البريد الإلكتروني:saleh_hahmed@hotmail.cim