حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

على هامش قراءة (الخصائص) [1]: بين ابن جني والأخفش الأوسط

بقلم أ.د/ عصام فاروق

راعى انتباهي عند قراءة (الخصائص) مدى الارتباط الفكري بين الإمام ابن جني والإمام أبي الحسن مسعد بن مسعدة المعروف بالأخفش الأوسط (210ه)، فابن جني يجلّ الرجلَ إجلالا واضحا ويقدر منجزه تقدير جليا، تتبدى مظاهرُه في معظم مواضع ذكره إياه عبر صفحات (الخصائص)، بدءًا من الصفحات الأولى للكتاب؛ أعني ذكره في المقدمة (!/2)
وقد فكرتُ كثيرا في أسباب ذلك التعلق، فلم أقف على أسباب واضحة تخص الأخفش، كالتي تتبدى للدارسين في علاقة ابن جني بأبي على الفارسي (377هـ) مما هو ظاهر للعيان، سواء أكانت تلمذةً أو صحبةً أو مثاقفةً أو غيرها من دواعي التأثر.
إلى أن عثرت على إجابة شافية- على الأقل بالنسبة لي- عبر أسطر يتضح في ظاهرها أنه أمر عاب به الإمامُ على الأخفش، ولعمري فهو من أسباب انجذابه إليه، وتعلقه به.
ففي (باب في اللفظين على المعنى الواحد يردان عن العالم متضادين) يذكر وجهًا من هذا التضاد في أقوال العلماء بأنه قد يذكر العالم رأيين وينص على الرجوع عن رأي منهما، إما بتحديد المتروك أو إعمال الباحث الأسباب العلمية لبيان المتروك من المراد تثبيته، كالعوامل التاريخية أو قوة الرأي المثبت وضعف المتروك أو اعتبار أنهما رأيان له عند عدم الوقوف على قرائن لبيان المتروك من المثبت، وفي ذلك يقول الإمام: ((وقد كان أبو الحسن ركّابًا لهذا الثبج، آخذًا به، غير محتشم منه، وأكثر كلامه في عامة كتبه عليه. وكنت إذا ألزمتُ عند أبي علي- رحمه الله- قولًا لأبي الحسن شيئًا لابد للنظر من إلزامه إياه يقول لي: مذاهب أبي الحسن كثيرة)) الخصائص (1/ 205، 206)
وما لمحته من هذا النص أن اشتهار أبي الحسن بتعدد الآراء في المسألة الواحدة – مما يؤدي في بعض الأحيان إلى القول بتناقضها- يعود إلى إعمال الأخفش العقل في المسألة مرة بعد مرة، وهذا يدل على عقليةٍ رجلٍ لا تهدأ، فتُقلِّب المسألة على أوجه عديدة، في أزمنة وأوقات متعددة. ولعمري، لعل هذا من أسباب أن يُشْدَهَ الإمامُ به، من حيث كان الإمام على هذه الشاكلة العقلية غير الهادئة، أو القانعة بما تصل إليه مرة واحدة في المسألة الواحدة – فيما يشبه الاعتقاد- فينتقل إلى مسألة أخرى.. وهكذا، وإنما تُعمل هذه العقلية غير الهادئة الفكرَ في الأمر مرة بعد مرة وتقلب المسألة الواحدة على أوجه، فيفرز لنا هذا الإعمال في كل مرة رؤيةً قد تكتمل مع سابقتها أو تخالفها وتناقضها، وهكذا دواليك..
ولعل حديث الإمام عن نشأة اللغة الإنسانية وتردده بين القول بالتوقيف أو الاصطلاح في الباب السادس الذي خصصه لذلك أدلُّ دليل على ذلك.
لكن إعمال العقل عند الإمام مشروط بانضباط التفكير، وتأطيره بحدود المُستنِد إلى أدلةٍ ونصوص، أو المقبولِ عقلا مع عدم الغلو فيه، مما قد صادفه الإمام عند أبي إسحاق الزجاج (311هـ) مما لم يَرُق له، وأثبت ذلك في مواضع من كتابه. ولذلك حديث آخر إن شاء الله.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu