تغريب المصطلحات النقدية والبلاغية مشكلات التواصل ووأد الانتماء [الحلقة الثانية].. بقلم أ.د/ إبراهيم الهدهد
أستاذ البلاغة والنقد ورئيس جامعة الأزهر السابق.
توحيد المصطلحات النقدية والبلاغية ضرورة
إن النقد والبلاغة يشتغلان على النصوص الإبداعية العربية بأجناسها المتنوعة شعرا ونثرا، تحليلا ونقدا، وكشفا عن مواطن الإبداع، وأسباب الرقي الأدبي، كما يكشفان عن جمال النص، وجلاله، لذا كان لزاما على النقاد والبلاغيين تصفية لغتهم شأن النصوص التي يشتغلون عليها، وأن يكون انتصارهم في المصطلحات والمفاهيم في هذين العلمين لعربيتهم، وأن يسهموا بالقدر العالي في ترسيخ الهوية العربية في تعاطيهم مع تلكم النصوص الإبداعية، فبما تحيا اللغة إذا لم يحيها أهل الاختصاص، كما أن توحيد هذه المصطلحات أمر بالغ الضرورة لبناء جسور التواصل بين القارئ والنتاج النقدي والبلاغي، وبين النقاد والبلاغيين أنفسهم.
إن اختلاف المصطلحات يؤدي إلى شتات الرأي، وانفلات معاقد العلم، وضياع المعارف بِيَد أهلها، مما يؤدي بتتابع الزمان إما إلى اطّراح النتاج النقدي كله فكثرة الاختلاف مهلكة، أو تشذير النقاد وتفتيت المعرفة المتصلة إلى جزر متعادية تضر أكثر مما تنفع، وتهلك أكثر مما تبقي.
والحل الذي يراه الغذّامي لهذا المأزق، أن يتكلم النقد بلغة العرب([1]) وقد أحدث نقل المصطلحات النقدية المدفوع بازدواجية الولاء أزمة في المصطلح النقدي ” لكن أزمة المصطلح لم تكن أبدا أزمة مصطلح نقدي عربي، فالمصطلحات التي أفرزتها الحداثة الغربية في تجلياتها في المدارس النقدية الحديثة من بنيوية وتفكيكية تثير أزمة عند قراء الحداثة الغربية ذاتها، وتواجههم نفس مشاكلنا مع الفارق، وترتفع الدعوات بين الحين والآخر لتوحيد المصطلح النقدي حتى تصل إلى دلالات معرفية نقدية شبه متفق عليها…إذا كانت هناك أزمة مصطلح بهذه الخطورة بالنسبة للمتلقي من داخل الإطار الثقافي الذي أفرز هذا الفكر، وتلك المذاهب النقدية، فلابد أن أزمة المصطلح بالنسبة للمتلقي من خارج ذلك الإطار الثقافي أكثر خطورة وحدّة” ([2])
مصطلحات كل لغة نابعة منها متأثرة بمحيطها الثقافي
لئن صح استخدام مصطلحات أجنبية في العلوم التطبيقية لضرورة تقتضيها، فقد نمت تلك العلوم وترعرعت في بيئة أعجمية، فإنه لايجوز استخدام مصطلحات أجنبية في علوم اللغة العربية،ولغتنا فيها من الطاقات والثراء ما يمكّنها من تلبية مطالب العصر، فلقد نقل الأوائل علوم اليونان، واعتصروها وأضافوا إليها، وكل ذلك بلغة عربية مبينة، وابن سينا، والخوارزمي، وابن الهيثم، وغيرهم يفيض تراثهم بذلك،ومن المسلم به أن المصطلحات النقدية في الغرب نبتت في بيئة ثقافية،وظروف محيطة بها،وقد نقلها النقاد الحداثيون العرب بحمولاتها الثقافية التي لاتلائم بيئتنا، ولاقيمنا، ثم هي غير مستقرة في بيئتها، فكيف يكون لها استقرار في المشهد النقدي العربي؟! ورحم الله الدكتور عبد العزيز حمودة فقد كشف كثيرا من الطبول الجوفاء التي يعج بها مشهدنا النقدي يقول : ـ رحمه الله ـ “إننا حينما نستخدم مفردات الحداثة الغربية ذات الدلالات التي ترتبط بها داخل الواقع الثقافي والحضاري الخاص بها، تحدث فوضى دلالية داخل واقعنا الثقافي والحضاري،وإذا كنا ننشد الأصالة فقد كان من الأحرى بنا أن ننحت مصطلحنا الخاص بنا، النابع من واقعنا بكل مكوناته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛لأن الهوة بين الواقعين الغربي والعربي واسعة سحيقة”([3])
إن استيراد المصطلحات الأعجمية وشيوعها في المشهد النقدي العربي الحديث ليس دليل عجز اللغة العربية، وإنما هو إعلان عن عجز النقاد النقلة “ولقد فشل النقاد الحداثيون العرب مرة أخرى، وخاصة في تجلياتهم البنيوية والتفكيكية في نحت مصطلح نقدي جديد خاص بهم، تمتد جذوره في واقعنا الثقافي العربي، كما أنهم فشلوا في تنقية المصطلح الوافد من عوالقه الثقافية الغربية”([4])
إن القضية ليست قضية نقل مصطلح، وإنما القضية قضية نقل ثقافة، والغريب هو النقل الذي يغفل الثقافة التي نقلت منها هذه المصطلحات”ورغم انتماء المصطلح النقدي الغربي إلى تراث فلسفي غربي فإن المتلقي المثقف، وليس المتلقي العادي يجد صعوبة في تحديد دلالته،فما بالنا إذا كان هذا المصطلح الغربي الذي يكتسب شرعيته،ودلالته داخل الإطار الفكري للفلسفة الغربية يستخدم الآن في النسخة العربية للحداثة خارج هذا النطاق الفكري، إننا نستعير المصطلح النقدي،ونخرجه من دائرة دلالته داخل القيم المعرفية، فيجئ غريبا،ويبقى غريبا،ويذهب غريبا، النتيجة الطبيعية هي فوضى النقد التي خلقها الحداثيون العرب”([5])
=========================
([1]) ينظر: نقد الحداثة د/ حامد أبو حمد 148 نشر المؤلف بمصر 2006م.
([2]) المرايا المحدبة د/ عبد العزيز حمودة 33 كتاب عالم المعرفة إبريل 1998م.
([3]) المرايا المحدبة د/ عبد العزيز حمودة 34 كتاب عالم المعرفة إبريل 1998م.