حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الفروق الدلالية عند ابن القيم [11] الفرح والاستبشار والسرور والرضى .. بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم بكلية الدراسات العليا ووكيل كلية اللغة العربية بالقاهرة السابق

جمع ابن القيم طائفة من الألفاظ تندرج تحت حقل دلالي واحد, تشترك فيما بينها في المعنى العام, وتتميز كل واحدة ببعض الملامح الدلالية الفارقة، حيث جمع بين الفرح والسرور والاستبشار والرضى، وفرق بينها من حيث المعنى, وسأورد كلامه فيما يلي:

1- الفرح والاستبشار:

فرق ابن القيم بين اللفظين في المعنى, “فالفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب, ونيل المشتهى, فيتولد من إدراكه حالة تسمىّ الفرح والسرور، فالفرح تابع للمحبة والرغبة, ويكون فرح العبد بالشيء عند حصوله على قدر محبته له ورغبته فيه”[1]، “وأما الاستبشار فهو استفعال من البشرى, والبشارة هي أول خبر صادق سار … قيل سميت بذلك لأنها تؤثر في بشرة الوجه, ولذلك كانت نوعين: بشرى سارة تؤثر فيه نضارة وبهجة, وبشرى محزنة تؤثر فيه بسوراً وعبوساً، ولكن إذا أطلقت كانت للسرور, وإذا قيدت كانت بحسب ما تقيد به”[2]، والفرق بين الفرح والاستبشار أن الفرح بالمحبوب يكون بعد حصوله، والاستبشار يكون به قبل حصوله, إذا كان على ثقة من حصوله, لهذا قال تعالى: (فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ)[3]، فالفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب تولد الفرح والسرور, والاستبشار استفعال من البشرى, وهي أول خبر سار يؤثر في بشرة الوجه, والأول يكون بعد حصول المحبوب, والاستبشار يكون قبل حصوله, فكأن ابن القيم يفرق بينهما من خلال مواقع الكلمتين في سياق الآية السابقة, فهم فرحون بما آتاهم الله، فهذا وقع, ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم, لمّا يقع بعد، وهو عين ما فرق به ابن القيمِّ بين اللفظين.

وما قال به ابن القيم تجد شبيهه عند أبي هلال في الفروق, “فالاستبشار هو السرور بالبشارة, والاستفعال للطلب, والمستبشر بمنزلة من طلب الَسرور في البشارة فوجده”[4] والبشارة – عنده – هي أول ما يصل إليك من الخبر السارّ فإذا وصل إليك ثانياً لم يُسَمّ بشارة”[5].

وأرجع الراغب فروع المادة إلى أصل واحد هو بشرة الوجه, تقول أبشرت الرجل وبشّرته: أخبرته بسارٍّ بسط بشرة وجهه … واستبشر إذا وجد ما يبشره بالفرح … ويقال للخير السار البشارة والبشرى[6]. في حين يرجعها ابن فارس إلى أصل آخر هو ظهور الشيء مع حسن وجمال، فالبشرة: ظاهر جلد الإنسان. وسمي البشر بشراً لظهورهم … الخ[7].

والبشارة – عند الزمخشريّ – “الإخبار بما يظهر سرور المخبر به, ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرَّني بقدوم فلان فهو حُرٌّ, فبشروه فُرادى عُتِقَ أولهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين”[8]. ويفهم من كلامه هذا أنه أول ما يصل إلى المستبشر من الخبر السار, وهذا عين ما فهم عن ابن القيم.

أما الكفوي فيجعل البشارة اسماً لخبر يغير بشرة الوجه مطلقاً, ساراً كان أو محزناً, إلا أن اللفظ غلب استعماله في الخير، فصار بحكم العرف خاصاً به[9]. في حين جعله غيره في الشّر جنساً من السخَرية والتبكيت[10]، أو إذا كانت مقيّدة كما جاء في القرآن الكريم:(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )[11] .

2- الفـرح:

يرى الراغب أن الفرح: “انشراح الصدر بلذة عاجلة, وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية, فلهذا قال: (لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ )[12] (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا )[13] … ولم يرخص في الفرح إلا في قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )[14] (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ )[15][16]، وجعله ثعلب خفة في القلب يجدها الفَرِح”[17]، وقصره الكفوي على ما يورث أشراً وبطراً, وهو ما يكون عن القوة الشهوية, ولذلك كثيراً ما يُذمّ[18]، في حين جعله الفيروز آبادي دالاً على السرور والبطر, وجعله كثير منهم نقيض الحزن, فالفاء والراء والحاء أصلان, يدل أحدهما على خلاف الحزن[19]، وجعل البعض الآخر الحزن نقيض السرور والفرح نقيضه الغم[20].

ويتضح مما سبق أن الفرح له من الملامح الدلالية ما يلي:

1- أنها لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب.

2- أن الفرح يكون بعد حصول المحبوب.

3- أنه يشرح الصدر بلذة عاجلة.

4- أغلب ما يكون في اللذات البدنية.

5- أنه غالباً ما يورث الأشر والبطر.

أما الاستبشار فملامحه الدلالية هي:

1- أنه يكون قبل حصول المحبوب حال الثقة بحصوله.

2- خبر سار يؤثر في بشرة الوجه.

3- أنه يكون مع أول وصول خبر سار.

3- السـرور:

يرى ابن القيم أن السرور أثر طيب تبرق منه أسارير الوجه من السعادة، يقول: “والسرور والمسرّة, مصدر سَرَّهُ سروراً ومَسَرَّة, وكأن معنى سَرّه: أثر في أسارير وجهه, فإنه تبرق منه أسارير الوجه … وهذا كما يقال رأسه: إذا أصاب رأسه, وبَطَنَهُ، وظَهَرَهُ: إذا أصاب بطنه وظهره[21],

ويرى الراغب أن السرور فرح غير ظاهر، لأنه يكون في القلب، ولذلك يقول: “والسرور: ما ينكتم من الفرح, قال تعالى:(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا )[22]، وقال تعالى: (يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ )[23]. وأيده في ذلك ابن فارس حيث جعل المادة تدور على إخفاء الشيء وما كان من خالصه ومستقره، فالسرّ: خالص الشيء، ومنه السرور, لأنه أمر خال من الحزن[24].

أما الكفوي فالسرور عنده لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه, أو اندفاع ضرر, وهو متقارب في معناه مع الفرح والحبور, لكن السرور هو الخالص المنكتم[25]. وقد أخذ هذا المعنى من الزمخشري في الكشاف[26] وتبعه فيه أيضاً السمين في الدر المصون[27]. ويرى ابن عاشور أن السرور لذة نفسية تنشأ عن الإحساس الملائم، أو عن اعتقاد حصوله, ومما يوجبها التعجب من الشيء والإعجاب به[28], فاللذة نفسية وليست قلبية – كما سبق عند الزمخشري وأتباعه – أما أبو حيان فيفسر السرور بالبهجة, قال: “تسر الناظرين” أي تبهج الناظرين إليها من سمنها ومنظرها ولونها[29].

والمتأمل لكلام غير ابن القيم يرى اختلافاً في الدلالة والمفهوم, فابن القيم يرى أثر السرور تبرق منه أسارير الوجه, مستنبطاً ذلك من دلالة الفعل “سَرَّه” أما غيره فيرى أنه المنكتم من الفرح, أي الذي لا يظهر أثره على الظاهر، أو أنه متفرع من دلالة المادة وهو إخفاء الشيء وما كان من خالصه ومستقره، أو أنه الخالص المنكتم, كما يرى الكفويّ.

وقيده أبو هلال بما فيه نفع أو لذة على الحقيقة, وذلك عكس الفرح الذي قد يكون بما ليس بنفع أو لذة, كفرح الصبي بالرقص والعدو والسباحة وغير ذلك مما يتعبه ويؤذيه, ولا يسمى ذلك سروراً[30]. ثم ذكر عدداً من الفروق بينهما, فنقيض السرور الحزن ونقيض الفرح الغم, وصيغة الفرح والسرور في العربية تنبئ عن ذلك, فالفرح مصدر فَعِلَ فَعَلاََ, وهو من أفعال المطاوعة والانفعال, فكأنه شيء يحدث في النفس من غير سبب يوجبه, أما السرور فهو اسم وضع موضع المصدر “سُرّاً” وفعله يتعدى ويقتضي فاعلاً, فهو مخالف للفرح من كل وجه[31].

مما سبق يتضح ما يلى:

أن هناك تداخلاً بين العلماء في تفسير الألفاظ المتقاربة في المعنى، ففي الوقت الذي يفسر فيه بعض العلماء الفرح باللذة القلبية, يفسر فيه البعض الآخر السرور بالمعنى نفسه, كما يحدث تباين بينهم أيضاً في المدلول ذاته فهو عند ابن القيم: أثر يؤثر في أسارير الوجه, وعند بعضهم الفرح المنكتم، ويرى بعضهم أنه نقيض الحزن, وعند بعضهم أن الفرح هو نقيض الحزن، وقد فسر أصحاب المعاجم كلا اللفظين بالآخر, فالسرور الفرح , والفرح السرور والبطر[32].

ومن جملة الملامح السابقة يمكن أن نستنبط تعريفاً للسرور يقترب من مراد  هؤلاء وهؤلاء ويبتعد ولو قليلاً عن مفاهيم الألفاظ الأخرى, فالسرور هو السعادة القلبية الخالصة من كل شائبة الظاهرة أثرها على ملامح الوجه, ويتضح ذلك في سياق آيات القرآن الكريم, مثل قوله تعالى: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا)[33] وقوله (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا )[34] وقوله (يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)[35] فكأن أمراً بعث السرور في قلوبهم ونفوسهم ظهر أثره على أسارير وجوههم، وخلاصها من الشوائب يستنبط من قوله تعالى على لسان أهل الجنة (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[36] فذهاب الحزن يجعل سعادتهم بما ورثوه سعادة لا يتبعها حزن أو خوف أو شقاء.

4- الـرضى:

يقول ابن القيم: والفرح بالشيء فوق الرضى به, فإن الرضا طمأنينة نفس وسكون وانشراح, والفرح لذة وبهجة وسرور, فكل فرح راض وليس كل راض فرحاً, ولهذا كان الفرح ضد الحزن والرضى ضد السخط، والحزن يؤلم صاحبه والسخط لا يؤلمه إلا إذا كان مع العجز عن الانتقام”[37]. فالرضا طمأنينة نفس وسكون وانشراح, وهو يجمع في هذا التعريف بين نوعين من الرضا ذكرهما الكفوي: الأول ما يكون من كل مكلف, وهو قبول ما يرد من قبل الله من غير اعتراض على حكمه وتقديره, وهذا يقابل طمأنينة النفس والسكون في تعريف ابن القيم، والثاني ما يكون من أرباب المقامات, وهو ابتهاج القلب وسروره بالمقضي, ويقابل هذا النوع الانشراح في تعريف ابن القيم[38]. وهذا النوع قد قربه من السرور والفرح.

وقد عبر صاحب المفردات عن الرضا بقوله: “ورضا العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه[39]، وهو عين ما قاله الكفوي في النوع الأول. وجعله ابن فارس مقابل السخط، فالراء والضاد والحرف المعتل أصل واحد يدل على خلاف السخط”[40].

ويتضح مما سبق أن الملامح الدلالية للرضا هي:

1- طمأنينة النفس بالقضاء.                         

2- عدم السخط عليه أو الكراهية له.

3- الانشراح به (وهذا خاص بالعارفين بالله).

=====================

[1] مدارج السالكين 3/148 , 150

[2] السابق 3/151 , 152

[3] السابق 3/150 وآل عمران جزء من آية 170

[4] الفروق اللغوية ص 280

[5] السابق ص 279

[6] المفردات ص 58

[7] المقاييس 1/251

[8] الكشاف 1/99

[9] الكليات ص 239

[10] المقاييس 1/251 والكشاف 1/99

[11] اللسان “بشر” وآل عمران آية 21

[12] الحديد آية 23

[13] الرعد آية 26

[14] يونس آية 58

[15] الروم آية 4

[16] المفردات ص 377

[17] اللسان ” فرح”

[18] الكليات ص 508

[19] المقاييس 4/499 وانظر اللسان “فرح”

[20] الفروق اللغوية ص 281

[21] مدارج السالكين 3/151

[22] الإنسان آية 11

[23] البقرة آية 69

[24] المقاييس 3/ 67

[25] الكليات ص 508

[26] الكشاف 1/141

[27] الدر المصون 1/425 , 426

[28] التحرير والتنوير 29/553

[29] البحر المحيط 1/408

[30] الفروق ص 280 ، 281

[31] السابق ص 281

[32] العين 7/190 والقاموس “سرر” واللسان “فرح” و “سرر”

[33] الإنسان آية 11

[34] الانشقاق آية 9

[35] البقرة آية 69

[36] فاطر آية 39

[37] مدارج السالكين 3/151

[38] الكليات ص 481

[39] المفردات ص 203

[40] المقاييس 2/402 وانظر الفروق اللغوية ص 127 واللسان “رضى”

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu