حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

ديوان (العبور الأخير).. قراءة في العتبات النصية [الحلقة الرابعة] بقلم: أ.د/عصام فاروق

أستاذ أصول اللغة ووكيل كلية العلوم الإسلامية للطلاب الوافدين لشئون الدراسات العليا- جامعة الأزهر

ثالثا- مرتكزات ثقافة الشاعر وأثرها في شعره:

من المرتكزات المهمة التي تظهر ملامحها واضحة عند شاعرنا الالتزام الديني، وهو يعبر عن أدق تفاصيل عشقه وشوقه، وما يحمله بين أضلعه من حب وهيام. ويذكرني بنفسية أبي فراس الحمداني في قوله:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر :: أما للهوي نهي عليك ولا أمر

فإذا كان أبو فراس يعبر عن نفسية الأمير الذي يأبى أن يظهر دموعه كيلا لا يخضع لسلطان الهوى، فإن شاعرنا يأبي أن يكون للهوى عليه نهي وأمر فيما يخص تعبيراته نحو محبوبته، وألاحظ على معجمه اللغوي في ديوانه عدم تناوله أوصافا حسية لمحبوبته تدخل في باب الإغراء والتشبيب، مما يوقفنا على رافد مهم من روافد تكوين شخصيته الملتزمة وثقافته الدينية المتأصلة، مغلفة في ذلك بالأصالة الريفية الكامنة في نفسيته.

فحينما يتحدث عن محبوبته يذكر قلبها القاسي: (ومن يجير الجوى من قلبك القاسي) الديوان 54، ويذكر ثغرها (من ألقى ابتسامة ثغرها) [الديوان ص76]، ووجهها (يكسو وجهها عبق السنين) [الديوان ص76]، وشفتيها وعينيها:

(تعيد.. كأننا عدنا صغارا :: على شفتيك نرقب ما يحلُّ

وفي عينيك أشواق الصبايا :: وفي جفنيك سهد يستهل)

وهو في ذلك كله ينظر إلى الجانب المعنوي في تلك الأعضاء، لا يزحف به خياله إلى مكوناتها الحسية التي قد يستدعيها مقام الحديث عن عشقه وما فعل الحب به، اللهم إن تجاوز هذا الخط الذي وضعه لنفسه نجد يتحدث عن قبلة راسية على شفة، وليتها متحققة فالنفي ملازم لها [من قصيدة عيد المواعيد]:

(عيد ولا قُبلة ترسو على شفة)

كما يظهر شعره احتراما وتقديرا للمرأة المحبوبة حتى أنه على عينه ورأسه: (كيما تكوني على علي العينين والراس).

وكحب الملتزمين يعمد شاعرنا إلى لغةٍ لا لسان لها سوى العيون الخجلى، ولا حروف لها سوى النظرات المترددة بين السرقة والتلصص والعزم على التحديق والإخفاق فيه، لقد اعتمد شاعرنا العيون ولغتها بديلا عن اللسان وتعبيراته، واليد ولمساتها، فيجعل من العيون جسرا يربط بين حنينه وعشقه على أمل أن يجد الطريق مفتوحا نهاية هذا الجسر من عيني الطرف الآخر، وبالتالي إلى قلبها، فيقول:

(وأنا أصارع مسها المخبوء

في لغة العيون الناعسات) الديوان 76

يعتمد لغة العيون لغة رسمية لحبه:

(لغة كأن الله

قد أوحى إليها أن تكون

فكانت العينان للعينين جسرا.) الديوان 79

إنها لغة الصامتين التي تكبت النفس وتجعل المشاعر معتكفه في محراب القلب المحب لا تبرحه، وتظهر أكثر ما تظهر في الليل، حينما يأوي كل حبيب إلى حبيبه، فيأوي قلبه إلى محرابه، باحثا عن مجير له من تلك الأشواق الصامتة المتلاحقة:

(فمن يجير الجوى من جوف معتكف :: يشتاق ليلا بلا نبض وأنفاس)

لكنها لغة العاجزين التي لا تعبر تعبيرا حقيقيا عما يحسه الإنسان، ولا تستطيع حروفها ترجمة ما يحمله قلبه من دلالات، فيظل في القلب أكثر مما تعلنه العين:

(بيني وبين سريرتي أضعاف ما :: بين السؤال وبين ذل المسألهْ) الديوان 59

وككل المحبين المكلبين بأطواق الالتزام فإن شاعرنا هو الحلقة الأضعف في معادلة الحب، ينتظر ويرقب:

(ما زلت والأمواج تعصر أضلعي :: أتجرع الآتي وأرقب مطلعهْ) الديوان 60

ويمنى النفس:

(منِّي على مدنف ما عاد يطربه :: إلا عيون تصب الشوق في الكاس

مني عليه فقد أمسيت قبلته :: ولا تفيئي لعدل أو لقسطاس

مني فموج الجوى في القلب أغرقني :: وما يقر بجنح الليل إيناسي

مني فلا منتهى للقلب أعبره :: إلا وينبض في لقياك إحساسي

مني علي ففي الأحداق أسئلة :: تكاد تشهر في عينيك إفلاسي)

وينتظر من يأخذ بيده ليدلف إلى هذا المعترك المحبب، ينتظر ليكون مأخوذا لا أن يكون هو الآخذ والبادئ وصاحب السطوة: [قصيدة سارق الوله]

(خذني إلى عينيك من حلاهما؟  :: وأباح وردك للغرام مظلّهْ

خذني أجوب الليل بين سهولها :: أحصي هناك أنجما وأهلّهْ

خذني فبين يديك نبع ما له :: إن شئت أن أحيا هناك غُلّهْ  )

وككل المحبين الملتزمين يلازم شاعرنا الخوف من الرقيب، والتوجس من رود أفعال المحيطين به، والهيبة من كشفهم تفاصيل العشق التي تكاد تفضحه عينه، فيؤثر ذلك على جوانجه كلها ويحاصرها بشعور لا يستطيع تجاوزه:

(من أين أبدأ والطريق مراقب؟ :: ويد محاصرة وأخرى مثقله) الديوان 57

و(وأنا على مدد الوداد

أصوغ أثواب اللقاء

وأرقب الواشين فوق الغصن خوفا.) الديوان 75

ولعل شاعرنا يلخص مذهبه في الحب بين المذاهب المتعددة، في قوله:

(قالوا دليل الجوى شوق وموجدة :: وقال أهل الهوى كأس وإغواء) الديوان 85

فبين (قالوا) التي تدل على العموم والإطلاق، وبين تسميته (أهل الهوي) الذين يرون في الحب أمورا حسية لا معنى لها عند الشاعر. يظهر لنا المذهب الذي ارتضاه لحبه وطريقته، فحبه وعشقه يتلخص في (الشوق والموجدة) بكل ما يحملان من معان لذيذة ومؤلمة، ذلك المذهب الذي يعتمد على المعنويات أكثر من المحسوسات، فنظرة من عيني محبوبه يبقي أثرها في قلبه، لا تساويها متع حسية تأتي وتذهب.

وهو لا يجد كغيره من العاشقين الخمر أو الكأس دواءً يمسح عنه مرارات العشق، وإنما طريقه عند الاستطاعة هو التبتل إلى الله بالدعاء أن يزيل تلك الهموم [من قصيدة ما لم يقله النور]:

(لو أستطيع رجوت الله معتذرا :: ألا يحمّل أهل الشوق أوزارا)

وهو نفسه يعترف أن شخصية الملتزمة وخلفيته الريفية قيود لا يستطيع الفكاك عنها، ولولا هي لكان الحال غير الحال [من قصيدة ما لم يقله النور]:

(أكاد لولا قيودي أشتهي سبلا :: يمضي بها البوح في الأسحار أذكارا)

كما تأتي خلفية الشاعر العلمية كواحدة من مرتكزات شخصيته المهمة، تلك التي تمده في بعض الأحيان ببعض من مفردات صنعته، لتظهر أمامنا عقلية الأستاذ الجامعي، الذي لا ينسي أبدا تشبيهاته واستعاراته وغيرها تنسرب بشكل لا إرادي من عقل الشاعر إلى تنفيساته الشعرية، مكونة بذلك رموزا مهمة تفيده في الحديث عن العشق وأحوال العاشقين.

فلا هو ينسى القافية [قصيدة الخروج الأخير]:

وكلما رددوا للنوح قافية :: سار الغرب بأحلام الورى مثلا

ولا هو يغفل عن البَيْت- الرواة- الأسانيد [قصيدة عيد المواعيد]:

وكان يتلو نشيد الصبح مبتهجا :: حتى كواه بضوء الصبح تصعيد

عيد ولا سند للبيت يذكره :: مل الرواة وما تفنى الأسانيد

عيد ولا قبلة ترسو على شفة :: تأسي القوافي ولا تأسى المواعيد

ولا هو يتناسى التشبيه والكناية [قصيدة حلم بلا مأوى ]:

ليظل يخدش في الحديقة وردها :: ويظل يعبق من أطال توجعه

عجز الكناية أن تظل حيية :: والفيض في التشبيه يفتح أذرعه

ولا هو يغض الطرف عن الأبواب النحوية عطفها وجرها: [من قصيدة على شفة الهيام]

ولا تنسيْ عيونك في جفون :: رماها الشوق في عطفٍ وجرِّ

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu